يعود الشتاء في كل عام، وقلوب تتوق لعيش لحظاته، في الشتاء ولدت، وليس سببا في حبي وتعلقي بشتوية هذا الفصل، وإنما لحميمية أجوائه، وطقوسه التي تقربك من الطبيعة وتجعلك على اتصال بالظواهر الطبيعية مابين أمطار وبرد ورياح وهبوب وثلوج ورعد وبرق. جميل الشتاء بكل ما يحمل من عطايا..
ومن تجمع لفيف أهل وأقارب متكورين على لهيب حطب وذكريات مراحل عمرية وقعها كان في الشتاء يوما ما، في فصل الغيوم الملبدة والسماء الماطرة، وليل طويل بنسيم عليل وصوت السماء تسقط رحمات الخالق، تطهر القلوب وتشفي الصدور وتسقي الدواب والزرع والثمار وتغسل الشوارع. اعتدنا أن ندرج هذا الفصل في أجندتنا السنوية، فترانا نخطط كيف وأين نقضيه ؟
ونجهز المؤنة والأدوات الخاصة له، نكون أكثر حيوية واستعدادا للرحلات والتي غالبا ما تكون في البر والصحراء وفي الأماكن الصديقة للطبيعة، نستقبله بحفاوة وشوق وكأنه مسافر وعاد لأحضان عائلته، نتحمل قساوة برده وثلوجه، وأعراض أمراضه، دون تذمر وتشككٍّ، يطول ليله، فيتسع وقتنا للعبادة والتسالي والتواصل العائلي والاجتماعي. في الشتاء عفوية طفولة لا نخشى القفز فرحا بسقوط المطر.
في الشتاء رأيت كل أقاربي، وأصبحت أعتبره فصلا للوصل وصلة الأرحام، في الشتاء أنا على موعد مع المطر ليقرع زجاج نافذتي ويوقظني، في الشتاء صوت رياح وبرق ورعد يذكرنا بعظمة الخالق وأن الله يمهل ولا يهمل، في الشتاء أتذكر أياما كثيرة من عمري لا تحضرني في بقية فصول السنة، في الشتاء سكون تام وكأن الأرض لا يسكنها بشر، في الشتاء نعود أطفالا كبارا يصبح تواصلنا سهلا وحواراتنا دافئة، وأعصابنا هادئة، نسامح أكثر ربما لأننا نحتك بالطبيعة أكثر..
فيصبح تأثيرها إيجابيا على أجسادنا، نذوب في عشق الأرض، نجلس على الرمال الناعمة، تصافح أيدينا حبات الرمال فتنساب بين أصابعنا، ونستمع لهزيز الرياح، فينسجم الذهن والجسد مع «نوتات» موسيقى الطبيعة، لنجد أنفسنا مجردين من ضغوط الحياة الصاخبة ووتيرة الأيام السريعة وإدمان التكنولوجيا العصرية.
في هذا العام كان الشتاء سخيا بعطاياه، رأينا الثلوج وقد اكتسحت مناطق عدة في البلاد، وأمطار متفرقة ما بين متوسطة وشديدة، ورياح وعواصف أوقفت أعمال وعمالا عن مواصلة مهامهم، تذكرت ما قاله القدامى «الشتا وجه الذيب» وهي عبارة لخصت الشتاء حين يهدأ، فنعتقد بأنه قد رحل ثم ما يلبث أن يعود شديد الوطأة فيحجز الناس عن متابعة مصالحهم ومنافعهم..
وفي المقابل لم يغب قيثارة العاشقين عن الأدب العربي وألسنة الشعراء الذين لم يستهووا فصلا من فصول السنة كما استهووا طقوسه ولياليه، فما أجمل ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش «أنحني للشتاء احتراما»، لا أعلم إن كان يقصد انحناء تحية لقدومه أم احتفاء بوداعه، فلم يبق سوى القليل ليترجل راحلاً، ونودعه احتراما واشتياقا وانتظارا لغيماته وأمطاره وأنسه ولياليه الحالمة وطقوسه العتيقة.