قصور اللسان.. أم تقصير الإنسان؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

أشاد البلاغيون بشرف المعنى والبيان، ورفع الحكماء قيمة اللسان حتى جعلوه حداً للإنسان، وتنافس اللسانيون في دراسة بنية اللغة ونظامها، وعناصرها، ومستوياتها الصوتية والتركيبية والدلالية، ووظائفها، التي تؤديها في مختلف السياقات.

ولعل ذلك لم يعد كافياً لفهم ما «يعبر به كل قوم عن أغراضهم»، كيف لا؟ وقد أصبحت بعض الممارسات اللغوية مظنة الإدراك القاصر والتأويل الجائر، سواء في الخطابات المنطوقة أو المكتوبة، فكم من صداقات فترت بسبب عبارة موهمة، أو تعبير مبطن! وكم من مناوشات اندلعت بسبب سوء ظن المتلقي! وكم من اتهام أُطلق بسبب سوء تقدير! وكم من إجابة انحرفت، سببها غموض في صياغة سؤال! وكم من قطيعة نشأت جراء تلميح في عبارة، أو تعريض بإشارة! وكم من إصابة في قول جنى عليها الفهم السقيم، كما قال أبو الطيب المتنبي:

وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً *** وآفتُه مـن الفهـم السَقيم!

إن وظيفة الفهم والإفهام التي قررها البلاغيون واللسانيون ويتوسل بها كل خطاب أضحت مهددة بوظيفة سلبية منافسة هي وظيفة «سوء الفهم»، التي يتحمل وزرها مناصفة منشئ الخطاب، لسذاجته اللسانية، وإهماله البراغماتي، والمتلقي لعدم امتلاكه نواصي فهم فونولوجيا الحروف ودلائلية الصورة، من خلال رد كل شيء إلى موضعه. والعرب ترد كل الأشياء إلى مظانها، مهما اختلف ترتيبها، أو تركيبها، أو إسنادها، أو سياقها.

إن قصدية المتكلم التي يوليها المختصون أهمية قصوى أصبح يعتريها في بعض الأحيان- خاصة في الرسائل النصية القصيرة حروفاً أو إيقونات- وابل من الشكوك مع سبق الإصرار والتوقع، ما يجعلها بحاجة ماسة إلى اهتمام بالغ بصياغة البنى التركيبية، ورعاية مستعجلة لحال المخاطب، وسياقات إنتاج الخطاب، وقراءة واعية (داخلية وخارجية، سطحية وعميقة) لكل إصداراتنا الخطابية مهما تنوعت سياقاتها وأنظمتها التواصلية. ومن جهة أخرى امتلاك المخاطب ملكة التلقي الفعال، وآليات المسالمة في الفهم، والوداعة في التفاعل، حفاظاً على شرف اللسان، والنأي بإنسانية المخاطب عن وضعها محل اتهام بالقصور والتقصير.

 

Email