ككل الأحلام التي تتمنى لو أنها حقيقة؛ كانت الزيارة إلى مصر التي أحب.. منذ لحظة اختياري لها كمشروع نتحدث عنه في الثانوية العامة ثم بحثي المستمر عن تاريخها والارتباط الوثيق بعروبتها وشعبها.. مصر هي الأرض كلها في جغرافيتها، والأجيال كلها تلتقي في آن واحد. 

مصر المنشاوي والحصري والغزالي والشعراوي، مصر الأزهر الذي لم تفارقنا أصوات قرائه عبر إذاعاتنا المحلية وحتى كبرنا. 

ثم حتى التحاقنا بمقاعد الدراسة، فترسخ في أذهاننا أدب توفيق الحكيم وبين القصرين لنجيب محفوظ وأيام طه حسين، وعلم أحمد زويل وتاريخ شجرة الدر وقصة عمرو بن العاص وبنائه لمدينة الفسطاط، ومارية القبطية زوجة رسول الله. 

تعلمنا منهم بين علوم كثيرة وكانت تلك الأسماء ولازالت ترّن في أذهاننا بعد عشرات السنين، لحقتها أسماء أخرى مثل: يوسف إدريس وإبراهيم أصلان ورضوى عاشور حتى ندرك أن فصول الأدب في مصر لم تتوقف على أسماء دون غيرها. وكانت تلك البداية. 

بداية أن نتتلمذ على أيدي الكتاب العظام حتى بعد وفاتهم، فننسب الفضل لهم عندما نكتب شيئاً عظيماً يشار له بالبنان. 

وعندما داعب شيءٌ من الموسيقى مسامعنا؛ في حفلات النجاح والتخرج بصوت عبدالحليم حافظ «الناجح يرفع ايده»، فأصبح النجاح مرتبطاً بمصر أيضاً.

وبدا الشوق لها يكبر شيئاً فشيئاً.. الشوق لمصر الأزمنة.. مصر موسى عليه السلام والمعجزات التي أضحت عبرة للعالمين، ثم مصر الفاروق ونازلي والخديوي والمعز الفاطمي وقطز وصلاح الدين الأيوبي والمماليك، ثم تلى ذلك مصر عبدالناصر ونجيب والسادات والمشير، ومصر التي تطل على العالم بخفة ظلها ورباطة جأشها وسلامة قلبها عبر القرون. 

رأيت مصر المحروسة كما تلقب، وعلى قدر غرامي بآثارها وتاريخها؛ ألفت أناسها.. ألفت الضحكة.. البساطة.. الدعوة التي يتقنها كل نسمة، صغيرها وكبيرها، البلد الذي لن تكون فيه غريباً على الإطلاق. 

الكل هنا مكافح، باحث عن اللقمة، راق في أداء موهبته، مبدع في رسم البهجة، متقن لكل صنعة، يبحث عن الحياة في الحياة.. سترى المصريين الذين لم يروا من الأرض إلا مصر، وآخرون جابوا الأرض.. وسيميل قلبك حتماً دون شعور.

وفي مصر.. كل «حتة» بقصة.. لن تمر بجانب أي شارع وأنت غاط في نومٍ عميق، لن تمر بجانب السيارات حولك وأنت في وضعية السرحان، يمكن القول بأن ذاك شبه مستحيل. 

ستغرم بمآذنها الصادحة بـ«الله أكبر» بصوت جهوريٍّ مصري متألق، ستمر على قصر البارون ثم لوحات فنية تغلّف المباني التي لازالت قيد الانشاء بأيدي بشرية. ثم ستنتقل الى مصر الخديوي والحديث عنه يطول.. باني مصر الحديثة الذي أدخل الإضاءة إلى شوارع وسط البلد قبل باريس، وقصر عابدين، جعل الانفتاح رؤيته من أجل تطور مصر وارتباطها بالشرق والغرب.

يمكن للانسان أن تبقى مآثره بعد آلاف السنين إن كان صادقاً حقاً، صدق الخديوي وبقيت مساعيه. كما هو الحال مع جده محمد علي باشا وصلاح الدين الأيوبي والفاطميين الذين حكموا مصر 100 عام أو أكثر. 

رأيت مصر الأزهر.. مصر خان الخليلي والحسين والمعز وصلاح الدين الأيوبي والسيدة زينب وسوق العتبة، رأيت مصر عبدالحليم حافظ وأم كلثوم.. مصر السادات وعبدالناصر. مصر نجيب محفوظ والكتب التي تزين الشوارع في كل مكان.. مصر الثلاثينات والخمسينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات وحتى اليوم.. رأيت مصر التي قرأت واقعاً أمامي.. رأيت محفوظ والعقاد ومصطفى محمود في أماكنهم.. رأيت لافتات العصور الماضية.. رأيت ما قرأت وأعمق. 

يمكن لك أن تزور مصر التي تحب عندما تحدد نوع زيارتك.. هي لكل أطياف الأرض.. هي لكل زمان ترغب بزيارته باختلاف التاريخ والوقت، هي لكل قلب ينبض بحب نيلها وأهراماتها ومبانيها العتيقة، هي بأهلها كل عجائب الأرض فيها.. هي لك عندما تبحث عن ضالتك.. والحكاية في مصر لا تنتهي أبداً.