في حكاية رواها العديد من المؤرخين عن صاحب أشبيلية وزوجته الرميكية وهي جارية أعجب بها المعتمد بن عباد فتزوجها وقد عرف بحبه الشديد لها حتى لا يكاد أن يرفض لها طلباً، وفي أحد الأيام رأت الزوجة في أشبيلية مجموعة من النساء يبعن اللبن وهن يخضن في الطين فاشتهت ذلك قائلة إنها ترغب أن تفعل ما يفعلن هؤلاء النساء، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور ‏وماء الورد، وأمرهم لكي يصنعوا منه طيناً في القصر، وجعل لها قرباً وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها ‏ليلعبن في ذلك الطين منفذاً بذلك رغبة الزوجة، حتى أنه لم يبق أحد من الناس في المدينة والمدن التي حولها لم يتحدث عما فعله لأجلها.

ومرت الأيام والسنين وإذا بالمعتمد بن عباد صاحب أشبيلية وقد خلع من حكمه حتى أصبح وزوجته في حال لا يسر، فإذا بالرميكية وقد اشتد الحديث بينهما تقول له: والله ما رأيت منك خيراً، فقال لها: ولا يوم الطين؟ تذكيراً لها بذلك اليوم، فاستحيت وسكتت.

هذه القصة التي قرأتها في بضعة أسطر وقد عاشها أصحابها دهراً، جدير بها أن تكون باباً للوعظ والتذكير بالفضل الذي يكون بين الناس، لا الأزواج فقط.

فالمعروف يبقى معروفاً سواء بين الزوجين بأن لا ينسوا الفضل بينهم، وبين الوالدين، والأشقاء، وأفراد العائلة الصغيرة أو الكبيرة والزملاء في العمل والأصدقاء هنا وهناك وصاحب البقالة في منطقة سكنك، وموظف توصيل الطلبات وموظف الحكومة والطبيب في العيادة والشرطي في حفظه لأمننا وغيرهم ممن لا يعد ولا يحصى. ليس بالضرورة أن يكون الفضل كيوم الطين الذي صنعه المعتمد لزوجته الرميكية ليبقى في الذاكرة، ولكن الفضل أو المعروف قد يكون في بقاء أخيك معك لحين انتهاء مشوارك دون حاجة له معك سوى أنه أخيك، وابتسامة موظف يعمل جاهداً لأن يغطي كل متطلباتك رغبة في إسعادك دون حاجة للانتظار ساعات ودقائق طويلة، وصبر والدك على طيشك في مرحلة المراهقة حتى تصبح رجلاً يافعاً، ووقوف صديقك معك في كل لحظة سهلة كانت أم صعبة دون طلب سوى أنك صديقه وحسب.

قد يرى البعض أن الكثير مما نقوم به في حياتنا ليس إلا حقوقاً وجب تأديتها، ولكن عندما نراها معروفاً فإن الحسابات تتغير، لأن قيم المودة والمحبة تظل وتتزايد مع مرور الأيام، والمواقف تتكرر في حياتنا دون أن نشعر فنقوم بإعادة تأديتها دون أن نشعر ثم نعاود النظر إلى الوراء لنتأكد أن المعروف لا يبلى. إنها دعوة لكي نمضي بالمعروف دون التذكير به مهما كان حجمه لأنه يعود إليك بأشكال مختلفة لا محالة، ودعوة بأن لا ننسى أي معروف وفضل أسدي إلينا أو لحظة جميلة قضيناها أو موقف استثنائي عشناه مع كائن من كان، لكي لا يقال لنا يوماً كما قيل للرميكية: ولا يوم الطين؟