يتعجب البعض حينما أترجم بكلماتي عن وصف الرؤية الضبابية التي أعمت أبصار البشر، حتى أصبحوا لا يفهمون من هم بالأساس، أشخاص تتوقف مشاعرهم بتوقف الكاميرا عن التقاط اللحظات اليومية، فتلك الكاميرا شهدت على مشهد سقوط الأقنعة، بمجرد الانتهاء من التقاط الصورة. وحينما نتعمق أكثر في جوف ذلك الجهاز، نرى العجائب والغرائب، حتى أصبحت تلك الكاميرا تنبههم بأن مساحة التخزين أصبحت ممتلئة حقاً.

ينغمرون تحت رداء «التوثيق» لكل التفاصيل، وفي داخلهم عالم فوضوي متشتت، أوصلهم إلى قرية بعيدة، لا يعلمون لغة أهلها، حتى أصبحوا تائهين، يرون الأنوار ولكنهم لا يبصرون الفرح، يسرعون لارتداء الجرموق في ليلة داهمها البرد القارس، ليس خوفاً من الوقوع في الوحل، بل لتتم الصورة بأكمل وجه.

أن يعيش الإنسان تحت عباءة «التصوير المبالغ» لكل الأحداث، دون أن يدرك جمالية اللحظة، هنا سوف يشعر أنه يرى الحياة من منظار وضع على كتف سطح قديم، فهو يرى الظاهر ولا يستطيع أن يفهم جوهر الكلام. أيا ليت الزمان يعود يوماً، وتعود معه التفاصيل البسيطة التي تحمل في أحشائها معاني عميقة، جميعها موجودة في ذاكرتنا، ونتغنى دائماً بـ «زمن الطيبين».

هل يا ترى لأننا كنا نعيش اللحظة بكل ما فيها من فرح أو شجن، دون الالتفاتة إلى عدسات الكاميرا؟ أم أن عاصفة التغيير اقتلعت معها أعمدة كنا نتكئ عليها سابقاً، حتى أصبح التأقلم مع اللحظة يتطلب من البعض سيناريو وإخراج، حتى يعيش الحدث بكامل تفاصيله؟

من الغريب أن يعيش البعض مع ذواتهم سنين طويلة، ولكنهم لم يتعرفوا إليها بعد، وهناك كثير من الأشخاص من يوجد لديهم «جزء من النص مفقود» في حياتهم، حتى يصبح مصير سعادتهم متعلقاً بعدد «الإعجابات» لتلك الصورة التي قاموا بالتقاطها، دون أن يروا ألوانها البهية، فهم مرتكزون على زواياها الحادة، يبصرون المناظر، ولكنهم لا يتمعنون بها حقاً، يستمعون للأحاديث، ولكن عقولهم بقيت عالقة في العالم الموازي.

يتنفسون ببطء تام، وبعد كل تنهيدة يأخذونها، يبدؤون بصراع التساؤلات، حتى يصلوا للسؤال الذي لم يجدوا له جواباً إلى الآن، وهو من أنا؟ ذلك السؤال الذي يحرك البراكين التي بداخلهم، بعد ما انتهوا من دور المخرج السينمائي، وقاموا بتوثيق كل الأحداث، دون أن يجعلوا للمشاعر حيزاً في أن تتنفس في زاوية ما، وكأن تلك اللحظة دفنت مع الصورة في قبر واحد، وكتب عليهما تاريخ الوفاة نفسه، حتى شهد الزمان على ذلك قائلاً، رحلت اللحظة السعيدة برحيل الصورة، فكانت نهايتهما مشتركة.

حينها، تعرب عن بالغ الأسى والمواساة لنفسك النقية، التي لم تعش اللحظة بتفاصيلها، وحصرت نفسها في ألبوم الكاميرا، إلى أن يأتي تنبيه هام بأن مساحة التخزين قد امتلأت، فيكون مصيرها كمصير تلك الصور التي سوف تنقلها بيديك إلى سلة المحذوفات.