تمتاز دولة الإمارات بقراها المتناثرة وسط الصحارى وعلى أطراف ووسط سهول الجبال، مثل منطقة «ساد» التي تقع على مدخل مدينة العين، وبها مجموعة من آبار المياه العذبة، أو دبا الفجيرة وغيرها من المناطق السياحية والتراثية.

غير أن منطقة «حتا» والتي تبعد عن إمارة دبي بحوالي 105 كيلومترات وعن حدود سلطنة عمان عشرة كيلومترات، تعد من أشهر القرى الجبلية في الدولة لموقعها الفريد بين الجبال ولخصوبة أرضها وكثرة مزارعها، وفيها مياه جوفية وينابيع مياه صافية مثل نبع حتا ونبع جيما الذي ينبع من قلب جبالها السمراء، وهي تقع على جبال حجر في المنطقة الوسطى وتطل على واحات خصبة. حيث تكثر بساتين النخيل وأشجار المانجو والنبق ومختلف أنواع الفاكهة، و«حتا» رغم التطور العمراني والسياحي الذي شهدته الكثير من مناطق الدولة، إلا أنها لاتزال محافظة على أصالتها وعراقتها وتماسك مجتمعها، ومن المناطق التي تفاخر دوما بمعالمها الحضارية والتاريخية، ففيها تم اكتشاف الكثير من الآثار والنقوش والرسومات التي تعود لعصور قديمة جدا من العصر الحجري إلى العصور الإسلامية المتقدمة والمتأخرة، ولا تزال بعض المعالم الأثرية قائمة في المنطقة إلى يومنا هذا، ويرى الزائرون إليها موقعا فريدا ومميزا.

بين الأمس واليوم... تشكل منطقة «حتا» حقبة مهمة في تاريخ دبي كما أنها تشكل التفاعل بين المناطق الجبلية وعمارة السهول والصحارى، شيدت القرية والتي سكنتها قبائل مختلفة من الدولة واغلب سكانها من قبائل «البدواوي» على غرار كل القرى القديمة في منطقة ساحل عمان الجبلي حيث تمثل الضرورات الدفاعية الركيزة الأكثر أهمية في استغلال وتوظيف الموقع العام، ويشكل الحصن الكبير مركز القرية، بينما تتوزع المباني على نحو يشكل اتصالا بصريا مستقيما بين الأبراج الدفاعية. كما أن مسجد القرية لا يبعد كثيرا عن مركزها، ويمتد إليه طريق لا يختلف عن سائر طرقات القرية، التي شكلت خطوط مجاري مياه الإمطار محاورها الرئيسية، وهناك وديان صغيرة ترتبط مباشرة بأكبر واديين هما وادي حتا الكبير ووادي حتا الصغير وهذان الواديان يعدان اليوم من أبرز معالم حتا إلى جانب القلاع التي تشير إلى حقبة من التاريخ القديم.

كما ان بيوت القرية تختلف في حجمها وسعتها وتصاميمها اذ تأخذ الفراغات أحجاما مناسبة تماما للاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للأهالي، وكل مبنى يختلف كل منها عن الآخر من حيث أسلوب التصميم وحجمه الفراغي، وهي مشيدة من الطين والحجارة، أما في المناطق القريبة من سفوح الجبال فقد استخدم العريش ولم يتبق منها إلا النذر القليل.

كما ان البيوت كانت تزود بالمياه عن طريق الافلاج التي تنقل مياه العيون والأمطار الى المزارع التي تكثر فيها زراعة أشجار النخيل والمانجو والليمون، اما مكونات هذه الافلاج، فكانت من الطين المحروق (الصاروج) والحجارة العادية الموجودة في المنطقة المحيطة، ومن يزور اليوم المنطقة يرى فيها الكثير من البيوت الشعبية خاصة تلك التي أنشئت وسك المزارع وعلى أطراف القرية.

وادي القحفي

يعد وادي القحفي أهم موقع سياحي في حتا، وهو واد طويل ينبع من سلطنة عمان ويمر مخترقاً حتا في طريقه إلى البحر، ويبلغ طول هذا الوادي أكثر من 155 كم ويتميز بجريانه الدائم صيفا وشتاء وتحيط به جبال شاهقة يظن الناظر إليها من بعيد أن لا حياة فيها، ومؤخرا قامت جمعية حتا للثقافة والفنون والتراث باستضافة مجموعة من الإعلاميين والصحفيين العاملين بالدولة.

وأعدت لهم جولة سياحية في ربوع المنطقة زاروا من خلالها وادي القحفي، ويسود هذا الوادي أو منطقة حتا بشكل عام مناخ صحراوي يكون شتويا بارداً كثيف الغيم في الشهور الأولى من العام ويزداد معدل هطول الأمطار في هذه الفترة أيضا، أما في شهور الصيف يكون الجو حاراً قائظاً تهب فيه رياح الكوس والسموم.

لكن الجميل أن هناك أمطاراً موسمية تهطل أيضا في فصل الصيف مما يبدد جزءاً كبيراً من حرارته، والوصول الى هذا الوادي يستغرق حوالي نصف الساعة عبر طرق وعرة غير مسفلتة، لكن الوصول إليه قد يكون مستحيلاً إن لم يكن لدى السائح دليل من المنطقة، لأن أهالي حتا يعرفون منافذ الجبال ويحفظون دروبها المختلفة ويدركون مكامن الخطر والسلامة فيها، وهم أيضا يسارعون إلى مساعدة الآخرين، وقد عرف عن أبناء حتا والمناطق المجاورة لها بطيبة قلوبهم وكرمهم الغامر وحسن استقبالهم للغرباء.

القرية التراثية

بالرغم من بقاء الأصالة والبصمة التاريخية في الحياة الطبيعية لأهالي منطقة «حتا» إلى أن إنشاء «قرية حتا التراثية» التي تطل بأمجاد الماضي وتاريخه وترمز له بموقعها الفريد ومبانيها القديمة، قد أسهمت إلى حد بعيد في استعادة التاريخ المجيد لهذه المنطقة.

وقد شيدت القرية على غرار كل القرى القديمة في منطقة ساحل عمان الجبلي، ومعظم مباني القرية استخدم فيها الطين والأحجار الجبلية للجدران وجذوع النخيل والدعن والطين للأسقف، لكي تبقى شاهدة على التاريخ القديم، وتمثل القرية النموذج التي كانت عليه المنطقة قبل ان تشهد النهضة الاجتماعية والمعمارية.

حيث كانت بيوت القرية قديما مبنية من الطين والأحجار الجبلية وجذوع النخيل والدعن والطين ، ومن ابرز معالمها الحصن ويجسد شكل الحياة الدفاعية والأدوات والأسلحة المستخدمة قديماً بالإضافة إلى القلاع والحصون الدفاعية، وهناك بيوت تقليدية تحتوي على غرف نوم ومجلس ومطبخ ومخزن وكلها ترمز إلى أسلوب ونمط الحياة التي كان يعيشها الآباء والأجداد.

كما تم تحويل احد البيوت إلى مطعم تقليدي تقدم فيه الأكلات الشعبية، وتم فيه استخدام الجلسات العربية، وهناك أنماط أخرى من أشكال الحياة الاجتماعية بما فيها تعليم القرآن الكريم بالطريقة التقليدية القديمة «المطوع» أيضا تحتوي على معان كبيرة في الحفاظ على التراث والعادات القديمة، فيوجد فيها عروض من الحرف التقليدية والأزياء الشعبية.

كذلك يشاهد الزائر ل «بيت الوالي» المنتجات الفخارية التقليدية وأعمال الغزل والنسيج والأدوات التقليدية المستخدمة في الحرف، بالإضافة إلى عرض الأزياء النسائية والرجالية التقليدية، بالإضافة لعرض صناعة الدبس والمنتجات السعفية، وهناك بيت الفنون والشعر الشعبي حيث يتم عرض أحد الفنون والأهازيج والموسيقى والآلات الشعبية المستخدمة في الدولة، مع عروض نماذج من الشعر النبطي لأبرز الشعراء القدماء في الدولة، وكل ذلك يشير إلى تاريخ منطقة «حتا» التي تمتلك الكثير من العادات والتقاليد والمآثر الاجتماعية والتاريخية.

إنشاء القرية

قام قسم المباني التاريخية بترميم المباني الصغيرة المنتشرة حول القرية، بالتنسيق مع بيوت الخبرة، وتم دراسة تأهيل القرية وأصبحت بعد افتتاحها مركزاً سياحياً ثقافياً، عهدت بلدية دبي إلى أحد الاستشاريين المتخصصين مهمة مسح المباني القائمة، ودراستها معماريا وإنشائيا، ثم وضع المشروع التصميمي المتكامل باستخدام المواد والتقنيات التقليدية، وبعد تدقيق التصميمات والحلول الترميمية، تم إسناد التنفيذ إلى إحدى الشركات ذات الخبرة الكبيرة في المقاولات والأعمال المدنية، لتتولى تنفيذ مشروع ترميم القرية الأثرية في مرحلته الأولى.

وتحت الإشراف المباشر من قبل مهندسي البلدية تم تجهيز المواد التقليدية وتصنيعها وفق الأساليب القديمة والتقليدية، مع الاستعانة بأهالي المنطقة ممن لهم الدراية بفنون البناء، وبدأت الأعمال بمعالجة وترميم الأساسات باستخدام الأحجار الجبلية الصاروج، ثم ترميم أو إعادة إنشاء الجدران باستخدام القوالب الطينية وفق الأسلوب التقليدي القديم، كذلك إعادة إنشاء معظم الأسقف باستخدام جذوع النخيل والدعون.

وروعي معالجة طبقات التسقيف وضبط ميولها لتتناسب مع غزارة الأمطار بالمنطقة، وفي المرحلة الثانية تولى قسم المباني التاريخية بالبلدية مباشرة ترميم وإعادة إنشاء بعض المباني الصغيرة التي تنتشر حول القرية لتربط النسيج التخطيطي للمنطقة، وفي عام 1995م تولى أحد الاستشاريين مهمة وضع التصميمات الخاصة بأحياء القرية وتأثيثها وتحويلها إلى موقع سياحي وقرية تراثية، وقررت البلدية استخدامها كقرية سياحية لإحياء العادات والتقاليد الاجتماعية القديمة، وافتتحت القرية عام 2001، وحاز المشروع على جائزة منظمة العواصم و المدن الإسلامية لعام 2001م.

متحف حي

القرية التراثية في حتا أشبه بالمتحف الحي يحمل كل ماضي وتاريخ حتا الذي يشكل جزءا لا يتجرأ من ماضي الدولة العريق، وبخلاف هذه القرية فإن العديد من القلاع والحصون مازالت تقف شامخة على جبال حتا وكأنها تحرسها من الطامعين.

ولمن يهوى التراث يجد القرية مشرعة الأبواب في استقباله ليقضي فيها لحظات مع الزمن الجميل ويعود بذاكرته للأيام الخوالي من عمر الإمارات، ففي هذه القرية تجسيد جميل لماضي البلاد ولكل ما حمله ذاك الماضي من تاريخ ومجد، كذلك يزور قرية التراث أعداد كبيرة من السواح الأجانب الذين يرون في تاريخ الدولة القديم أكبر دافع لهذا التطور الذي شهدته في مرحلتها الأخيرة، والجميل ان قرية التراث لا تختلف تماما عن واقع المنطقة فكلاهما اليوم يشكلان التاريخ والحضارة .. الماضي والحاضر.

مسجد وحصن

من المعالم الدينية في قرية التراث المسجد والليوان وصحن المسجد والمئذنة وجميعها مبنية من نفس المواد التي كانت مستخدمة في بناء المسجد القديم، كذلك تم إعادة الحصن الذي تم إنشاؤه على يد الشيخ مكتوم بن حشر آل مكتوم عام 1896 م ، وتحتوي القرية التراثية أيضا على 17 مبنى تراثي مختلف المساحات والوظائف يتوسطها الحصن الذي أستعمل كمركز خاص للاجتماعات واللقاءات العامة إضافة إلى بيت خاص بالوالي، ويوجد في قرية حتا (عين ماء) تخدم سكان المنطقة وأراضيها.

ولما كانت مباني القرية ذات جمالية تراثية خاصة ميزتها المواد الأولية المستخدمة في البناء والعمارة وكذلك أسس البناء والتصميم التراثي .وللقرية أنشطة وفعاليات تقيمها في مختلف المناسبات مثل فعالية التنور والتي تأتي حفاظا على هذه العادة التي يمارسها أهل حتا منذ القدم خصوصا خلال عيد الأضحى المبارك ومناسبات الزواج، بالإضافة إلى تنظيم عدة مسابقات تراثية وثقافية.

جميل محسن