غيب الموت قبل أيام الإعلامي العربي القدير عبد الهادي البكار بعد رحلة طويلة مع الهم العربي. غادر بلاده سوريا عندما أعلنت الوحدة بينها وبين الجمهورية العربية المتحدة ليستقر في القاهرة مذيعا عبر إذاعة صوت العرب، يروج للوحدة ويكافح من أجلها.
وكان من الحالمين بالوحدة الكبرى للأمة العربية. استلهم الفكر الناصري ثم صار من منظريه، وبقدر فرحه بتلك الوحدة وحرصه على اتساع رقعتها لتشمل البلدان العربية جميعها، إلا أنه وبصوت تملؤه الغصة أذاع خبر الانفصال محملا بلاده سوريا جريرته والتسبب فيه، فقاطعها وأقام في مصر منفى اختياريا ، ولاجئا سياسيا بها.عبد الهادي البكار الذي عاش في مصر بين رفاق الدرب الناصري تحول فجأة إلى إمارة أبو ظبي لما علم عن شخصية الشيخ زايد عليه رحمة الله، جاء إليها عله يجد القائد الذي يأمل فيه أن يحقق من خلال قيادته الوحدة العربية المنشودة. وتكررت زياراته وفي إحدى الزيارات كان الأديب عبد الله الطائي قد غادر عمان ليستقر في أبوظبي وكانت معه مذكراته الشخصية عن عمان فسلمها إلى البكار ليقرأها ويعيد صياغتها. وكان له ذلك، وقبل أن يعيدها إليه جاءه أحد الصحافيين اللبنانيين يطلب لقاء حول عمان، فأشار عليه بأن يذهب إلى البكار ويأخذ ما لديه لأنه يمثل مذكراته ومشاهداته الشخصية. وقد أخذها ذلك الصحافي ونشرها مذيلة باسم عبد الهادي البكار المستشار بديوان الرئاسة في أبوظبي.
كان البكار قد وعد بهذا المنصب لكن لم يصدر مرسوما بذلك، وبعد نشر التحقيق وفي إحدى جلسات الشيخ زايد «طيب الله ثراه» في مجلسه جاءه اثنان من عمان وجلسا بجانبه، وكانا قد حضرا يحملان احتجاجا عمانيا على تصرف مستشار الرئاسة وكتابته ذلك الموضوع، فنفى الشيخ زايد أن يكون البكار مستشارا بديوان الرئاسة وإنما هو ضيف من ضيوف الإمارة يجيء ويذهب.
في هذه الأثناء يقف البكار أمام الشيخ زايد ليشكره على التوجيه بتعيينه، حاول الشيخ أن يتجاهل الأمر لكنه عَرف بنفسه وأنه سمع بأمر تعيينه، كان الأمر محرجا . لكن الإجراء الذي اتخذ بعد ذلك قضى بأن يبتعد البكار قليلا من الوقت عن أبوظبي .
وهكذا كان وبعد سنوات وقبل الإعلان عن قيام الإمارات العربية المتحدة عاد ثانية من منفاه بمصر ليعود ويكون شاهدا على قيام الدولة كما يبدو من الصورة التي أخذت عند رفع علم الاتحاد، وها هو يجدد أمل الاتحاد ليعيش في دولة متحدة.
عندما قررت وزارة الخارجية فتح سفارة في الجزائر كلف بالذهاب للتمهيد لذلك، وأقام فترة بالجزائر بلد النضال والكفاح ولما علم بفتح سفارة للدولة في تونس طلب التحول إلى تونس ليعمل ملحقا إعلامياً، وأثناء عمله هناك إلتقيته وأنا دبلوماسيا في السفارة خلال الفترة من ابريل 1979 حتى نوفمبر 1981، ربطت بيننا علاقة حميمة وجدت فيه ذاكرة سياسية وإعلامية واعية، و مقدرة على التحليل، ووجد عندي الإذن التي تسمع له بإنصات، وتحترم رأيه مهما اختلفت معه، حيث عانى كثيرا في حياته .
وهو يخاطب الآخرين، ذات يوم حادثني في تمام الساعة الثامنة صباحا، يخبرني بأنه تلقى اتصالا من القصر الجمهوري التونسي حيث يطلب الرئيس بورقيبه لقاءه في القصر، كان ذلك بعد أن تلقى اتصالا هاتفيا من الإذاعة التونسية للحديث معه حول الإعلام التونسي والقضايا العربية، وبجرأته المعهودة انتقد الرسالة الإعلامية للإعلام التونسي و تعامله مع الأحداث. وكان الرئيس بورقيبه يستمع إلى ذلك الحديث، فطلبه ليعيد ما قاله أمامه بحضور وزير الإعلام ومدير عام التلفزيون و رؤساء تحرير الصحف، ودار حوار بينهم، شكره الرئيس بورقيبه بعده وهنأه على صراحته وطلب من أجهزة الإعلام الاستفادة من خبرته وما طرحه من آراء.
عام 1981 انتقلت من تونس وعدت إلى الوطن وبقي هو هناك واستمرت العلاقة بيني وبينه عبر المراسلات واللقاءات في زياراته المتباعدة إلى الإمارات.
تنقل البكار بين أكثر من سفارة فقد نقل إلى سفارة الدولة في بروكسل ثم انتقل إلى القاهرة ليعود معها موظفا بسفارة الدولة وكأنها بداية رحلة العودة إلى الوطن ومسقط الرأس، بعد عودته إلى مصر زار القاهرة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد ويقابله البكار ليطلب منه مساواته مع الكثير ممن قدموا خدمات جليلة للدولة، فصدرت الأوامر هذه المرة بمنحه جنسية الإمارات ومنحه مبلغا من المال يشتري به بيتا في القاهرة.
وتسوء العلاقة بينه وبين السفير فيعفى من العمل، ليبقى عدة سنوات بدون عمل، وكلما مرت الأيام ابتعد عنه البعض إما بالوفاة أو بالتحول الإيديولوجي أو بظروف الحياة اليومية، وبقى وحيدا إلا من أسرته الصغيرة زوجته الدكتورة عائشة هالة طلس وابنه صخر، وبعد معاناة مع أمراض الشيخوخة واليأس العربي يعود البكار إلى وطنه سوريا حسب وصيته ولكنه يعود جثمانا مسجى، ليقبر في أرض «دومة» بلده التي ترعرع فيها.
خلف البكار كتابات متناثرة في الصحف المصرية والعربية، وكتابه «المأزق» مصر والعرب الآخرون، رحم الله أبا صخر وجزاه خير الجزاء على حبه النقي لأمته ووطنه، وعزاء واجب لأسرته ولمحبيه وأصدقائه.
بلال البدور