جاك بيرك.. الحالم بأندلس جديدة

في المقالات التي تقوم بنشرها «البيان» بدءًا من اليوم، وعلى مدى أيام رمضان المبارك.

يقدم مستشرقون، ذوو مكانة علمية، شهاداتهم في فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية الحديثة، في انتشارها من الأندلس غرباً إلى تخوم الصين شرقاً، حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في قدوم عصر النهضة، وما صحبه من إحياء للعلوم. ينتسب هؤلاء المستشرقون إلى مدارس مختلفة، شرقاً وغرباً، عالجوا الحضارة العربية والإسلامية في أبهى تجلياتها من إعجاز القرآن الكريم إلى الآداب، ومن ثم إلى العلوم، ورؤوا في الإسلام ديناً متسامحاً وميداناً غزيراً للإبداع منذ عرف الغرب أكبر حركة ترجمة في التاريخ على امتداد قرنين، نقل فيها معظم التراث العربي وأمهات الكتب إلى لغاته، ما أتاح للثقافة العربية أن تدخل حضارة الغرب لتضيء الحياة الفكرية والعلمية.

ترجم القرآن الكريم إلى الفرنسية واعتبر الصحراء أرض التوحيد

رجل الضفتين.. هكذا كانوا يطلقون على المستشرق الفرنسي جاك بيرك في فرنسا والعالم العربي، وذلك في إشارة إلى مذكراته القيمة المعنونة «بين ضفتين»، حيث كافح طيلة حياته من أجل التقريب بين الإسلام المتوسطي وأوروبا المسيحية، فإن لم يفلح في ذلك، فإنه أرسى هذا المبدأ وشيد لبناته الأولى.

يعترف جاك بيرك بأنه ورث فهمه وتقديره للإسلام بفضل والده، أوغسطين بيرك، المختص في الإسلام والذي كانت له سلطة فكرية في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي لها. وربما لهذا السبب أطلق عليه أحد المستشرقين البريطانيين، وهو هاملتون جيب، بأنه «مستشرق بالوراثة» ولكنه «عالم اجتماع بالممارسة». وفي أواخر حياته، قام بنشر بعض كتابات والده تحت عنوان «كتابات عن الجزائر» في عام 1986 وفاءً له. كان أوغسطين بيرك يعيش في الجزائر عندما ولد ابنه جاك في عام 1910. وهو المسيحي، الذي وجد في الإسلام «رؤية جديدة لحقيقة العالم».

وكان يشعر بأنه في بيته في فرنسا وفي البلدان العربية على حد سواء وقد نال التكريم من الطرفين. وقد كرمته كل من المغرب وسوريا وتونس وبغداد ومصر. وعلى الرغم من انجازاته الهائلة في ميدان الثقافة والفكر إلا أنه ظل متواضعاً، حيث أمضى سنواته الأخيرة في قريته «لاندس» في جنوب غرب فرنسا، أصل جذور عائلته.

لم يكن أستاذاً تقليدياً في الكوليج دي فرانس، أعرق المدارس العملية في فرنسا، بل تراه متأبطاً لمجموعة من الكتب العربية، يلتقي الطلبة في داخل قاعات الدرس وفي أروقة الجامعة، وعادة ما كان الطلبة من العرب والفرنسيين يكتظون في محاضراته. كانت محاضراته مدوية، وصاخبة، ومثيرة للجدل، وتفتح على نقاشات وأبحاث وأطروحات وتساؤلات. وظل اسمه مرتبطاً بهذا الصرح العملي، بل وأصبح لصيقاً به حتى بعد رحيله. انتقد المستشرقين المغرضين ممن كانوا يشجعون فكرة الصراع الحضاري بين عالمين أمثال بيرنارد لويس.

شفافية

اشتهر جاك بيرك بترجمات عديدة لأمهات الكتب العربية إلى اللغة الفرنسية بلغة رشيقة ومتفردة، لغة تجمع شفافيته كشاعر ودقة لغته كعالم وباحث. ولعل ترجمته لأشعار أدونيس إلى اللغة الفرنسية أكبر دليل على ذلك. وقد وصل حبه للغة العربية درجة أنه طالب بتدريسها في الثانويات والجامعات الفرنسية، وإتاحة تعلمها لمن يرغب بذلك. وليس أبلغ من قوله في عام 1959 :«إن العربية هي طريقة حياة ووجود».

وكان من أوائل من حذر من صعود التيارات السلفية والمتطرفة وكان مؤمناً بأن بناء الإسلام على أسس حديثة من شأنه أن يردع تلك التيارات، ويهمشها. فقد حمل معه عطر الجزائر، ووقف ضد بلده من أجل دعم الجزائر في استقلالها. فهو جزائري دون أن يكون جزائرياً، وفرنسي دون أن يكون فرنسياً، لأنه نوع آخر من الإنسان المؤمن بأندلس جديدة تتعايش فيها جميع الأديان في جو من التسامح والتفاهم. وكان يعرّف بنفسه، قائلاً: «ولدت في الجزائر في العام العاشر من هذا القرن، كان أبي موظفاً كبيراً في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر وعشت صباي كله في الجزائر...».

لذلك كان من بين المتفهمين لمشاكل المهاجرين المغاربة في فرنسا، ووقف ضد من كانوا يربطون بين الإسلام وبينهم، بل أن مفاهيمه للإسلام قد تخطت ذلك إلى جوهر الرسالة ومعانيها وفلسفتها.

ولم يكن ينظر إلى الإسلام بمنأى عن الوقائع الساخنة، ففي ابريل من عام 1995، أي قبل أشهر من وفاته، ظهر جاك بيرك في مقابلة تلفزيونية أجراها صديقه الكاتب الفرنسي جان سور، تطرق فيها إلى جميع القضايا الراهنة التي تخص العرب .

حيث وقف ضد اتفاقيات ماستريخت التي هيأت لولادة الاتحاد الأوروبي، خشية تحوله إلى كفة مصالح الشمال الأوربي ويدير ظهره لبلدان البحر الأبيض المتوسط. كما تطرق إلى معالجة المشكلات الأخرى، منها: الهجرة المغاربية في فرنسا، والإسلام والحداثة، والتيار المتطرف في الجزائر، والاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية، وحرب الخليج الأولى. ولأهمية هذا الحوار التلفزيوني تمت طباعته في كتيب صغير يحمل عنوان (العرب، والإسلام ونحن).

لذلك لم يتحول إلى مجرد باحث أو مستشرق مغلق في برجه العاجي لا يهتم بالمشكلات المحيطة، بل على العكس من ذلك، عاش الثقافة العربية منذ صباه في الجزائر، وأمضى 21 عاماً في المغرب، وأقام صداقات مع العديد مع المثقفين المغاربة والعرب حيث آمن بأن العرب تمكنوا من السيطرة على رموزهم في مواجهة الغرب.

ولعلنا نطرح السؤال التالي:

هل كان هذا المستشرق طوباوياً في رؤيته للعرب والمسلمين؟

وخاصة في استعادة الأندلس، أرض التسامح وتعايش الأديان، إذ كان يلخص فلسفته على الوجه التالي: «إنني أدعو الأندلسيين إلى إنارة تلك الشعلة التي نحملها في أعماقنا، المتكونة من خرائب مجزأة وآمال ملحة». وسعى إلى تحقيق مشروعه الثقافي، المتمثل في إقامة أندلس جديدة، أو مجموعة أندلسيات جديدة، حيثما تلتقي الحضارتان، الأوروبية المسيحية والإسلام أي التقاء الضفتين. وهذه التعددية هي من أساسات العالم، كما دعا إلى إعادة تأصيل القرآن باعتباره قادراً على تقديم الحلول للمشاكل التي يطرحها العالم المعاصر. بقيت دعوته حلماً من أحلام البشرية وخاصة في الفترة التي تلت رحيله، وما شهده العالم من تصاعد التيار المتطرف.

ولكي يفهم العرب، أقام في الجزائر والمغرب ولبنان، آخر محطاته في البلاد العربية، إذ عمل فيها مشرفاً على معهد تعليم العربية للمستشرقين، ثم انتقل بعدها إلى باريس، ليتولى كرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر في «الكوليج دي فرانس»، ثم تقاعد عن العمل، منصرفاً لترجمة القرآن الكريم لأكثر من عشر سنوات. ولاقت ترجمته للقرآن الكريم استحساناً كبيراً من علماء السعودية والأزهر في مصر.

فقد دعا إلى العلمانية، واعتبر الإسلام هوية للعرب، والاستشراق حوار بين ثقافتين، الأوروبية المسيحية والعربية الإسلامية، لذلك أصّر على التعامل مع الواقع الحيّ، لا مع النصوص الميتة. وأدخل العديد من المصطلحات للثقافة العربية، كالثابت والمتحول والإسلام المتوسطي، والأصالة والمعاصرة وغيرها. وأولى عناية خاصة بأهم مصدرين عند العرب: القرآن الكريم والمعلقات العشر، باعتبارهما العمود الفقري للحضارة العربية الإسلامية.

تأثر بأبي العلاء المعري، وابن خلدون الذي جعله موضوع أطروحة الدكتوراه في باريس، كما أعجب بطه حسين، وأفرد له دراسة عميقة، وأثنى على جرأته العلمية. وكانت له علاقة صداقة قوية مع المفكرين العرب ومنهم عبد الرحمن بدوي، علاوة على انبهاره بالزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.

لقد جمع جاك بيرك بين حبه لبلده فرنسا وتعلقه بالجزائر مسقط رأسه، فقد كان نموذجا حيّاً لتلاقي الثقافات، ومن شدة تعلقه بمسقط رأسه، أهدى مجموعة من كتبه إلى مكتبة مدينة فراندا، غربي الجزائر حيث ولد. أربعون كتاباً، تركها بعد رحيله، وكان قد أنجز قبل وفاته بأيام ترجمة ديوان الشاعر أدونيس إلى اللغة الفرنسية، على الرغم من إيمانه باستحالة ترجمة الشعر إلا بكتابة قصيدة جديدة بجماليات اللغة المترجم إليها.

من آرائه

«صحيح أنني كاثوليكي مؤمن إلا أن قوتي تكمن في أنني أمضيت طيلة حياتي مع المسلمين، وبالنسبة لي، ليس الإسلام بغريب عليّ».

قالوا عنه

شهد جاك بيرك بعقلانية الإسلام وسماحته وفرادته وصلاحيته الذاتية للتقدم والتجدد ودخول العصر دون الحاجة إلى استلهام نماذج التقدم من موائد الآخرين! وإذا كان جاك بيرك قد انتقد الجهلة والمغرضين، الذين يسيئون الظن بالإسلام ويعادون هذا الدين الحنيف بدلا من أن يتفهموه ويصادقوه.. فلقد أدان الموقف الغربي المعادي للإسلام فقال: (إن الإسلام، الذي هو آخر الديانات السماوية الثلاث والذي يدين به أزيد من مليار نسمة في العالم، والذي هو قريب من الغرب جغرافياً وتاريخياً، وحتى من ناحية القيم والمفاهيم.. قد ظل ويظل حتى هذه الساعة، بالنسبة للغرب: ابن العم المجهول، والأخ المرفوض..

والمنكور الأبدي.. والمبعد الأبهت.. والمتهم الأبدي.. والمشتبه فيه الأبدي!. لقد أعلن جاك بيرك شهادته هذه على افتراء الغرب على الإسلام، في العام الذي توفى فيه 1995 أي قبل الـ 11 سبتمبر 2001 بسبع سنوات.. الأمر الذي يفضح العداء الغربي للإسلام - تاريخيًا - وقبل وقوع هذه الأحداث التي فطن بعض المنافقين أنها بداية تاريخ هذا العداء الغربي للإسلام!

إنها شهادة صدق أعلنها علم من أعلام الثقافة الغربية، تؤكد أن الغربيين ليسوا سواء في الموقف من الإسلام.. وأننا بحاجة ماسة إلى إبراز هذه الشهادات لأنفسنا.. وللآخرين.د. محمد عمارة

تقمص

«يبدو أن نداءً آمراً قد نأى بها عن شخصي. هكذا يستشعرها المسلمون، والحال أنني قد جعلت مواقفهم مواقفي عندما درست كتابهم المقدس، مع احتفاظي بالمسافة المناسبة لتمييز نفسي ولإبراز هويتي، لقد وضعت نفسي في جلبابهم، أي تقمصتهم، كما يقال بالعربية، مع بقائي نفسي، فكيف يمكن ذلك؟ أهو التعاطف، التقمص العاطفي؟ لقد بدد ماكس فيبر هذه الالتباسات، أما ما أعانيه أنا فهو الاندماج العابر يعزز في المماثل والمختلف معاً»

«ذكريات بين ضفتين» ص 270

في سطور

ولد جاك بيرك (1910 ـ 1995) في بلدة فراندا بالجزائر وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي ودرس الآداب القديمة في جامعتي الجزائر والسوربون حيث حصل من الأخيرة على دكتوراه الدولة سنة 1955. التحق بالإدارة المراكشية، واستطاع من هذا الطريق أن يعرف عن كثب وجوه الحياة المغربية في المدن والقبائل.

وفي سنة 1953 ترك بيرك الإدارة المراكشية وشد رحاله إلى مصر فقضى بها ثلاث سنوات خبيرا دوليا لليونسكو في مركز التربية، ثم رحل إلى لبنان وأسس بها مركزا لتعليم اللغة العربية الحديثة، وقضى بها سنتين ثم اختير للتدريس بالدراسات العليا بجامعة باريس؛ كما شغل منصب كرسي التاريخ الاجتماعي الإسلامي في الكوليج دي فرانس.

وخلال عمله في التعليم الجامعي زهاء ربع قرن تخرج على يديه عدد كبير من الطلبة الأوروبيين والشرقيين. وقد كان صديقا للعرب ومشاركا بسرية في حركات التحرير في الجزائر وفلسطين، ولذلك حصل على رتبة ضابط فرقة الشرف من فرنسا كما حصل على عدة أنواط من مراكش وتونس وسوريا. وحصل على جائزة بغداد للثقافة العربية في سنة 1983.

شاكر نوري