الرحى لا تطحن ذكريات الزمن الجميل

الرحى لا تطحن ذكريات الزمن الجميل

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من هناك، من ذاكرة نسقطها على ماض تفوح منه رائحة الزمن الجميل، من صباحات مشرقة ممزوجة بأحاديث الأجداد وحكاياتهم المثيرة، من هناك، يأتينا صوتها متحشرجا مع كل حفنة من الحبوب تدور بين شقيها الناعمين تدور، ويدور صوتها مع مواويل الأمهات والجدات، مع أغنيات تكفكف دموع الأطفال الباكين، مع أهازيج الافراح وطحين خبزها، مع أنات المتعبين العائدين من الحقول بحثا عن رغيف طازج.

الرحى، مطاحن الاسلاف مزروعة في كل بيت، بسيطة كبساطة أهلينا الأولين ورقة قلوبهم، تنساب في دورانها مستجيبة للأيدي الناعمة، صلبة، تستمد قواها من عزيمة الجدات ومشاركتهن الفاعلة في صنع الحياة.

الرحى أداه صنعها الانسان بعدما عرف الاستقرار، وفلح الأرض وبذر البذور وحصد الحبوب، صنعها من الحجر الصلب «الصوان» أو «البازلت» وتدرجت صناعتها حتى أصبح لها صناع متخصصون ومحترفون، اذ يتم نحت قرص من الحجر الصوان بسماكة عشرة سنتيمترات تقريبا، وبقطر يقارب الذراع، ويُحفر في محور القرص ثقب يدق فيه وتد معدني ويثبت عليه قرص صواني آخر بنفس المقاسات، ويتم حفر ثقب أو ثقبين متقابلين على أطرافه تثبت فيها أوتاد خشبية، ويمكن لامرأتين العمل على الرحى حيث تمسك كل واحدة بوتد ليدور القرص العلوي، وأحياناً تعمل امرأة واحدة اذا اضطرتها الظروف.

وتوضع الحبوب في فتحة الوتد المحورية لتنتشر بين سطحي القرصين، وبفعل دوران القرص العلوي يتم طحن الحبوب ليخرج الطحين من جوانب الرحى بدرجة من النعومة يمكن التحكم فيها بما يتناسب مع الأكلات الشعبية المعدة لها مثل الهريس، والعصيد أو الخبيص.

بيدين محملتين بخير الامارات وأصالتها، تتشبث عائشة علي بالوتد الطويل، وبهمة ونشاط، تحسدها عليهما بنات هذا الجيل، تقوم بتحريك القرص العلوي فيحتك بالقرص السفلي، وليمتلأ المكان بصوت شجي له مذاقه الخاص، يعود بنا صوت الرحى الى أيام الطفولة والصبا، حيث كانت تلفظ آخر أنفاسها أمام موجة الاختراعات الحديثة، هل كان الصوت حزينا يبث أشجانه الحبيسة؟

هل كان يزيح صدأ السنين المتراكم على حواف القرصين؟، والوتد الطويل الذي لا يزال يحمل بصمات الأنامل الكريمة، بصمات أمهاتنا وجداتنا، ترى أي حديث شجي سيخبرنا اذا ما سألناه عن الأيام الخوالي؟، عن عرق الأكف الناعمة التي تحتضنه كل يوم في الصباحات الباردة والمساءات الحارقة؟

ان احساسنا بالرحى وبصوتها وبزمانها، ليس أكثر ولا أقوى من احساس الوالدة عائشة علي، نسألها، تجاوبنا وهي لا تتوقف عن العمل، ما نظرت الينا قط، كانت عيناها ع لى القرص الدائر، تبدل يديها بالتناوب أعلى وأسفل الوتد الطويل، تتحسس القرص العلوي و كأنها تفهم ما يقول أكثر منا نحن الحاضرين جميعاً، متوحدة تماماً مع رحاها العتيقة، علاقة وطيدة لمسناها بين الاثنتين، فهل كانت عائشة تناجي رحاها بمشاعرها وهواجسها كما كانت تفعل في السابق أم ان الرحى هي التي تبث الشكوى من الاهمال الذي أصابها؟

ما كان يمر يوم إلا والرحى في كل بيت في الفريج تطحن الحبوب، نصنع الخبز والهريس والخبيص، هكذا تنطلق عائشة علي في شرح عمل الرحى وأهمية وجودها في كل بيت، رافضة مقولة ان هذا العمل لا يتناسب مع طبيعة المرأة، نحن شاكسناها بالعبارات المقصودة التي نرمي من ورائها استجلاء الفوارق بين الماضي والحاضر، وبعد فتيات هذا الجيل عن فهم ميراث شعبي زاخر بمشاركة المرأة قديماً في كل شيء.. شباب اليوم ما «ينلامون»، هذا حال الدنيا.

سألناها: أما كنت تتعبين من طحن الحبوب بالرحى كل يوم؟ تنفي عائشة مجيبة في ردها على هذا السؤال، مدللة على تعب الرجال في المزارع وفي الصيد، وتستنكر الطلب منهم ان يعملوا أيضاً في البيت؟

من ينظر الى الوالدة عائشة يرى كم أخذت السنون من قواها وجسدها النحيل، لكن شيئاً عن عزيمتها لم يفل، تفكك عائشة الرحى، وتحمل القرص العلوي رغم ثقل وزنه، حاولنا مساعدتها لكنها رفضت، تشرح لنا عمل الرحى، وكيفية تنظيفها عقب كل دورة طحين، فبقايا حبوب القمح تختلف عن الشعير وغيرها من الحبوب، ويتوجب تنظيف قرص الرحي من بقايا الطحين في كل مرة.

وبعد ذلك تقوم بتغطيتها بقطعة قماش كبيرة لمنع تعرضها للغبار والأتربة ودخول الحشرات، ثم تقوم مرة أخرى بتركيب الأجزاء وتروح في نوبة جديدة من العمل المتواصل، نقاطعها باستفسار عن المجهود الذي تبذله بمفردها، وما إذا كانت احدى البنات تساعدها في السابق، تضحك.

وتشير الى الثقب الآخر على سطح القرص العلوى، نعم يمكن لامرأتين ان تتعاونا على إدارة الرحى، لكن هذا يتوقف على عدم انشغال الأخريات بأعمال البيت، مؤكدة العادة اليومية التي كانت تتملك النساء فلا يشكين من التعب أو الإرهاق، ويمكن لواحدة أن تقوم بهذا العمل باحساس طاغ بالسعادة والفخر، كونها تقوم بواجبها تجاه أسرتها على أكمل وجه.

الحق أننا لم نكن بحاجة لشرح عن الوالدة عائشة، فهي طوال حديثنا معها ظلت ممسكة بالوتد الطويل، تثبته وتقوم بإدارة القرص العلوي، ثم تتوقف وتمسح على حواف القرصين وكأنها تبث حنينها لعمل توقف، أو أنها تنبش بين ثقوب الرحى باحثة عن ذكريات جميلة، ومهما كان، فإن علاقة عائشة برحاها.

والتي لمسناها بوجداننا ورأيناها بأم أعيننا، ما هي إلا تجسيد حي لعلاقة المرأة بالرحى أيام كانت في أوج الشباب، وكم كان صعباً علينا ان نصل معها الى نهاية الحديث، تركناها وهي ممسكة بالوتد، يعلو صوت عائشة مع دوران الرحى، يتعانق صوتاهما كنغم قادم من البعيد، من هناك، من أيام الزمن الجميل.

Email