بدأت مبادئ التربية والتعليم تأخذ ملامحها في منطقة الإمارات منذ ما يقارب المئة عام، وقد مرت بمراحل متعددة بدأتها بدور الكتاتيب وانتهت بما نشهده اليوم من تطور ملحوظ عبر مواكبة حضارية تعليمية لها شأنها.

وللوقوف عند قضية التعليم التقينا الدكتور حمد الشيخ أحمد الشيباني مدير عام دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، مدير منطقة دبي التعليمية بين عامي 1983 و1998م. ومحاضر في العديد من الندوات وله مقالات وكتابات وبحوث إلى جانب نشاطات اجتماعية متعددة من خلال عضويته في المجالس ولجان عدد من النوادي والجمعيات كنادي الشباب العربي الرياضي وجمعية إحياء التراث وغيرها. يبدأ الدكتور الشيباني حديثه فيقول: في حديثنا عن الجانب التربوي والتعليمي في المنطقة نحتاج في استهلالنا أن نبدأ بلمحة تاريخية موجزة، فلم تكن ظروف منطقتنا في الإمارات كغيرها من المناطق، فقبل مئة سنة على الأقل من الآن لم تكن ملامح الاستقرار السكاني بادية حيث ساد الرحيل والترحال، إلا في بعض المناطق وتحت ظروف معينة عند من عاشوا على تجمعات خاصة في بعض المواقع ضمن منظومة حياتية معينة وخصوصاً على ضفتي الخور في دبي، فللخور خصوصيته التاريخية فهو يخدم الحياة بمختلف جوانبها ويعتبر الميناء الطبيعي الذي تم استغلاله على مستوى المنطقة بأشكال متعددة كان أبرزها الغوص وكان الغوص مهنة رائدة في هذه المنطقة.

وفي الوقت نفسه وعلى مدى السنوات الطويلة الماضية، توافد على المنطقة أناس من خارج البلاد وحتى من الخليج، توافدوا بدافع نشر العلم لتصبح المنطقة مقراً لهم، فغداً هذا المقر رافداً من روافد التعليم المرتبطة بهذه الرقعة من المنطقة الخليجية، وكان البدء بالتركيز على أمور تتصدرها التعاليم الشرعية وترافقها اهتمامات أخرى أفرزتها قضية التجارة حيث يتطلب الوضع بشكل ملح معلومات غير تقليدية تتعلق بالفلك وحركة النجوم حتى تساعد البعض في ارتياد البحار وفي اختيار المواسم والحسابات الفلكية وما يفيد في عملية الغوص والتجارة.

الفترة التي تتحدث عنها لم تكن فيها أي وسيلة من وسائل الاتصال وبالوقت عينه لم تكن فيها مكننة فالاعتماد على الرياح والشراع والتجديف ووسائل من هذا القبيل.

الحساب بحبات البن

فامتلكت المرحلة الماضية والطويلة نسبياً خصوصية بالغة، فالتعليم إما أن يتم اكتسابه من خلال الممارسة أو من خلال سلوك القدوة الموجودة لديهم. وفيما يتعلق بقضية الجوانب الشرعية فالكل حريص عليها فهي جزء من الحياة اليومية التي يعيشها المجتمع ككل. تبقى هناك بعض الأمور الخاصة فيما يتعلق بقضية الحساب، فالناس آنذاك بحاجة لحساب مقدار ما يدخل حسابهم من أرباح وما ينفقون في عمليات الغوص وغيرها من المهن والتجارات، في قضايا البيع والشراء.

ومما أذكر أن كبار السن كانوا يتحدثون عن استخدامهم لحبات البن في عمليات الحساب.

ظهور الكتاتيب

لقد دخلت تجارة الغوص في ازدهار ملحوظ في تلك الآونة حيث انتعشت المنطقة وبدأت المطالبة بإعداد بعض الدراسات الخاصة بهذه المستجدات والتهيئة اللازمة التي يتطلبها المستقبل.

وأعني هنا أنه بدأ بعض التجار وخصوصاً ممن ينوون القيام بعمل الخير، بدأوا بتأسيس بعض الكتاتيب لخدمة المجتمع. وبدأ العمل في الكتاتيب على جانبين أولهما عمل المطوع الذي يتناول الأمور الشرعية وثانيهما جانب يتعلق بالحساب واستمرت هذه المرحلة إلى ما قبل قيام الاتحاد بما يقارب ثلاثة عقود. في هذه الأثناء بدأ إقبال الناس على بعض الثقافات. ومن ضمنها تعلم اللغة الانجليزية فبدأ أصحاب المعرفة في هذا المجال بتعليم اللغة، ومنهم من فتح بيته لها وأيضاً أقيمت لها بعض المجالس، بدأ نشر اللغة الانجليزية للمجموعات المدركة لأهمية الأمر في المراحل المقبلة من أجل تجاوز الحدود الاقليمية سعياً للاطلاع على ثقافات العالم.

وفي فترة من الفترات كان يتم إحضار بعض المناهج لهذه الكتاتيب التي تم احداثها فتم تزويدها ببعض المقررات والكتب والدراسات من دول الجوار ومن دول أبعد من ذلك. وتم الاحتفاظ ببعض الكتب التي كانت تدرس في هذه المراحل إلى الآن في بعض المدارس والجهات الرسمية.

كان غالبية المطاوعة يعلمون التلاميذ في البيوت، وكان من بين المطاوعة العنصر النسائي، وكان التركيز بالطبع على تحفيظ القرآن وبعض الأمور التكميلية التي تتعلق بأمور الفقه وغيرها، ولم تكن أعداد الكتاتيب كثيرة فهي محدودة. وكنا نسمع من التلاميذ الكثير عن فصول الكتاتيب.

«وضعني الشيخ في العود أي الصف الكبير، فلان لم يكن بالمستوى المطلوب فغضب عليه الشيخ وأبقاه في الصف، فلان أجاد فوضعه المطوع في الصف التالي..» فعلى التلميذ حينها الوصول إلى مستوى ما كي يجيز له الشيخ أو المطوع الانتقال إلى مرحلة تالية.

واجازة الشيخ تؤخذ حتى الآن في بعض الكتاتيب الموجودة في بعض البلدان، فنسمع أن الشيخ أجاز على تلاوة فلان وهذه تعتبر إجازة «إجازة التعليم ـ إجازة تلاوة القرآن الكريم..» وهذه الإجازة تمنح من الشيخ مباشرة عندما يتأكد من أن هذا الشخص استوعب مجموعة من المعلومات كان يتم التركيز عليها. وكان هناك أيضا ما يعرف بشيخ العلم إلا أنه يتناول جوانب أخرى فلديه معرفة عميقة بجوانب معينة كالقضاء والوعظ والخطابة وغيرها فكان أكثر التصاقاً بهذه الجوانب من التعليم في الكتاتيب.

كانت تتبع عملية التعليم في الكتاتيب بعض الطقوس وأبرزها عندما يصل التلميذ إلى مرحلة متفوقة أو ينهيها ويحفظ القرآن الكريم أو ينتهي من بعض الصفوف فكان المطوع والأهل يمرون بابنهم أو ابنتهم المتفوقة على بعض الأماكن ومن أمام زملائهم ويحضرون لهم الحلوى كشكل من التكريم والمكافأة، كذلك كان الأهل يكرمون الشيخ، وهذا الشكل الاحتفالي كان يعرف بالتومينه وهو يشبه حفل التكريم والتخرج اليوم عند الترفع من صف إلى آخر أو عند التخرج من مرحلة تعليمية إلى أخرى.

وكان الأهل يتحملون مصاريف ابنهم أثناء تلك الدراسة والتي يتم تقديمها اسبوعيا أو شهرياً للمطوع أو في كثير من الأحيان يكون كل شيء على نفقة المطوع، وإن كان وفي أغلب الأوقات يتحمل ولي الأمر النفقات التي كانت محدودة للغاية.

مجيء البعثات

ويضيف د. الشيباني: نحن نتكلم عن مرحلة قد تكون سبقت قيام دولة الاتحاد بخمسة عقود على الأقل، وهناك بعض الدول سبقتنا في هذا الجانب وبالطبع هذا لا يعني بأن النشطاء في هذا المجال عندنا كانوا يفتقرون لبرامج منظمة في التعليم. فمن المعلمين أو المطاوعة من امتلك شخصية قوية وجاذبية في الأسلوب وقدرة على التأثير وكانت امكاناتهم تفوق المتوقع، فكان المطوع وحسب تأثيره يمنع التلميذ من مغادرة الصف أو يتركه أسير إرادة ولي الأمر.

ففي تلك الفترة لم تكن الحياة سهلة فبالرغم من البساطة كانت هناك صعوبة بالغة وكان البعض من أولياء الأمور يستغلون أبناءهم في الحياة العملية كالزراعة والفلاحة وغيرها من الأعمال المهنية وكانت المهنة الأساسية كما سبق وذكرت هي في الصيد والغوص ولهذا كانت التجارة في بدايتها ولم تكن بالمستوى الذي نراه اليوم.

ما أن وصلنا إلى الفترة التي سبقت قيام الاتحاد حتى بدأت نهضة تعليمية من خلال البعثات التي تأتي من خارج الدولة بغية خدمة الأجيال في قضية التربية والتعليم، مع العلم أن هذه المناطق المأهولة كدبي وغيرها من الإمارات كانت تشكل محطات لبعض العلماء الذين وفدوا من خارج الإمارات، من المغرب وموريتانيا ومن مصر والسعودية واستقروا في المنطقة لفترة مؤقتة وأخذوا يعلمون بعض الناس ومن ثم يغادرون البلاد.

بعد ذلك أصبحت المسألة أكثر قوننة فأصبحت هناك مؤسسات يرعاها أثرياء البلاد ويستقدمون لها مجموعة من العلماء متخصصة في الجوانب الشرعية وعلومها، وقبل قيام الاتحاد بما يقارب عقد ونصف من الزمن.

تأهلت مجموعة أخرى من المتعلمين ومنهم من كانوا شباباً، فلم تكن المدارس تنظر إلى شهادات الميلاد فالمهم تعليم أكبر مجموعة ممكنة، فالكل يتلقى التعليم وبعد ذلك تأتي عملية فرز المجموعات، بعد أن تعطى مجموعة من المعلومات من قبل المطوع ويتأكد الأخير منها يجيز للطالب الانتقال إلى مرحلة ثانية فيما يشبه الشهادة اليوم والتي تتيح الانتقال إلى مرحلة متقدمة.

فالشباب الذين أتيحت لهم فرصة التعليم تلك وفرصة الانتشار في العالم العربي على الأقل وعادوا بعلمهم وخبراتهم مع بداية تكوين الاتحاد أصبحوا المقومات الأساسية للبناء، أفادوا البلد لدرجة كبيرة، منهم من تعلم في دول الخليج أو في دول عربية أخرى ودول أجنبية، وعادوا للبلد بحصيلة كبيرة وأصبحوا يديرون المؤسسات بين حكومية وأهلية خاصة، ويقدمون الكثير لمستقبل البلد.

بناء مؤسسات التعليم النظامي

ويشير د. الشيباني قائلا: بعد رحيل الانجليز عن المنطقة لم تكن هناك بنية تحتية تذكر، فبدأ المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله والمغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله وبقية الحكام يدركون أهمية هذا العنصر المتعلم الذي يتمكن من الإنتاج والإبداع وبدأت الوزارات تستحدث وبدأت المشاريع تدور وتنمو، وأنا ممن عاصروا قيام الاتحاد، وأذكر أنه لم تكن توجد أي من مقومات قيام دولة في حينها، لم تكن هناك مؤسسات تعليمية ولا صحية ولا خدمية ولا شوارع، وبسرعة قياسية نصل إلى هذا المستوى ونقطع أشواطا كبيرة أعتبر هذا انجازاً غير طبيعي، إنجازاً عظيماً، يعود إلى بعد نظر الحكام والعناصر المؤهلة بالعلم.

قبل هذه الفترة بدأت بذور التعليم النظامي، حيث استعانوا بمجموعة من مجموعات المعلمين القدامى ممن كانوا مهيئين وجاهزين، إضافة لبعثات المدرسين من البلاد العربية الذين أتوا من قطر والسعودية والكويت ومصر وأغلب الدول العربية التي كانت ترفد المنطقة بالمؤهلين من المعلمين.

حيث استطاعت هذه المجموعة في بداية النظام التعليمي الذي بدأ في عام 1958 تأهيل التلاميذ بصورة تعليمية أوضح. ونحن ممن دخلنا في هذا النظام التعليمي المتقدم إلى حد كبير، والذين خضعوا للتعليم في الكتاتيب يشيرون إلى تنظيم وتعليم في تلك المرحلة ومحاولات طموحة وبذلوا جهوداً كبيرة، حيث أوجدوا كوادر مؤهلة كما ذكرت استفادت منهم البلد في مرحلة البناء.

وبعد قيام الاتحاد بدأت مرحلة جديدة من التعليم، حيث أصبحت هناك وزارة للتعليم وضمت كل المؤسسات الموجودة كمعارف دبي ومعارف الشارقة وغيرها، فدخلت كلها تحت مظلة وزارة اتحادية وبالطبع أتت الوزارة قوية من خلال اهتمامها بالجوانب الإدارية والتنظيمية والفنية وهذا حال كل الوزارات الاتحادية، وبدأت بوضع المناهج، وقد نكون بفترة من الفترات قد استفدنا من بعض المناهج الخليجية أو العربية الموجودة. ولكنها استمرت لفترة مؤقتة وبعدها بدأت توضع المناهج الوطنية، وبدأ إعداد كوادر من مدرسين وإداريين، واستطاعت الوزارة في غضون خمس سنوات التغلب على كل الصعوبات وتحقيق بنية تعليمية واضحة المعالم.

يقول د. الشيباني: لو نظرت إلى الهيكلية الموجودة في وزارة التربية والتعليم ترى أنها تشمل كل المهام والاختصاصات سواء في جوانب تعليم الكبار ومحو الأمية أو فيما يخص تطوير آلية تدريس اللغات وتطوير المناهج وإعداد المعلمين والتأهيل التربوي، لقد أصبحت هذه المرحلة الأساس والمرتكز بالنسبة لقيام الدولة.

ولا ننسى الخطوة الكبيرة في مجال التعليم ممثلة في جامعة الإمارات والتي تم تأسيسها في مدينة العين وكان لها ميزة كبيرة، فيما يخص مكانها من خلالها وجود الطلاب الجامعيين لمدة أسبوع على الأقل في مكان واحد بعيدين عن مجتمعهم وبيئتهم تربطهم علاقات وطيدة من الزمالة.

واليوم مجموعة كبيرة منهم مازالت تربطهم تلك الذكريات، فكانت جامعة الإمارات من أكبر الروابط بين أبناء الإمارات وحتى ممن درسوا فيها من غير الإماراتيين. والآن أينما اتجهنا في الدولة نجد لنا زملاء كنا ندرس سوية في جامعة الإمارات.

وأرغب قبل نهاية الحديث أن أؤكد على قضية التربية في مسألة إعداد الأجيال والانتقال من فكرة التعليم إلى فكرة التربية والتعليم وأنا مع تغليب الجانب التربوي على الجانب التعليمي، وفيما مضى كان الوعي كبيراً لمفهوم القدوة فالجيل الذي يتحمل المسؤولية كان قد وعى مبكراً لمبدأ القدوة، وكان المعلم أو المطوع يغلب الجانب التربوي على الجانب التعليمي وبهذا الأساس نجح كشخصية فاعلة وعاش حياته في هذا الهم الوطني من أجل قضية تربوية وتعليمية. وأخيراً أؤكد على أن التعليم بمختلف مراحله بدءاً من الكتاتيب وانتهاءً بالتعليم النظامي والجامعي هو عصب الحياة بالنسبة لاستمرار دولة الإمارات بما أرسى من مفاهيم تنهض حضارياً ومصيرياً بالبلاد.

قصي بدر