كثيراً ما نسمع عن خطورة مرض السكّري وانتشاره بمعدّلات مرتفعة في العالم وفي دول الخليج العربي بشكل خاص. ففي الإمارات العربية المتّحدة مثلاً تقدّر نسبة المرض بـ %20، وهي من أعلى معدّلات مرض السكّري في العالم بحسب الاتّحاد العالمي للسكّري.
وتقدّر نسبة المرض بـ %23 في المملكة العربية السعودية، و%16 في قطر، و%15 في البحرين، و%13 في الكويت. وتقع دول الخليج العربي تحت خطر الارتفاع المتزايد في معدّلات انتشار المرض بسبب رفاهية العيش وقلّة الحركة وانتشار سلاسل مطاعم الوجبات السريعة وغيرها من العوامل حسب تصريحات الأطباء وأخصائيي التغذية. ويأتي السؤال هنا: هل لمرض السكّري أسباب وراثية مرتبطة بالجينات أم أنّه وراثة لأخطاء أسلوب الحياة؟للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نعرّف أوّلاً بمرض السكّري وأنواعه. مرض السكّري هو عبارة عن مجموعة من الأمراض التي تشترك في النتيجة، وهي ارتفاع معدّل السكّر في الدم. ويرجع هذا الارتفاع عادة إلى أسباب مرتبطة بنقصٍ في إفراز هرمون الأنسولين أو في خطأ في وظائف هذا الهرمون المسؤول عن تأمين السكّر إلى الخلايا لتستعمله في التفاعلات الأيضية التي تُنتج الطاقة، وبالتالي يتراكم السكّر في الدم. ومن أعراض مرض السكّري كثرة التبوّل وكثرة العطش ونقص الوزن واعتلالات البصر وغيرها. وعادة ما يتسبب الارتفاع المزمن في معدّل السكّر إلى تلفٍ عضوي كتلف العيون والكلى والأعصاب والقلب وشرايين الدم. ومن النتائج الخطرة في حالة عدم السيطرة على معدّل السكّر هي تجمّع الأحماض الكيتونية في الدمّ مما يؤدّي إلى تلف البروتينات والأنزيمات والأنسجة وبالتالي إلى الموت. ويُقسَّم مرض السكّري إلى نوعين رئيسيين:
1ـ مرض السكّري المعتمد على الأنسولين (النمط الأوّل)، الذي يقتصر على 5 إلى %10 من حالات مرض السكّري. وينتج هذا النوع عن تدمير الجهاز المناعي في الجسم لخلايا بيتا في البنكرياس المسؤولة عن انتاج هرمون الأنسولين. ويحتاج مرضى هذا النوع إلى جرعات منتظمة من الأنسولين عن طريق الحقن في الدم ليتمكّنوا من العيش. وكلّما زادت سرعة تدمير الخلايا كلّما ظهرت عوارض المرض في سنّ مبكّر. لِذا يظهر هذا النوع في الأطفال والراشدين من المرضى دون سنّ الأربعين.
وتشير الدراسات إلى مزيج من العوامل الوراثية والبيئيّة التي تُعرّض للمرض. لا تزال العوامل قيد الدراسة إلاّ أنّ الدلائل تشير إلى ارتباط مرض السكّري النوع الأوّل ببعض الجينات المتعلّقة بالمركّب المناعي النسيجي العامّ (Major histocompatibility complex). كما تُظهر الأبحاث احتمال وجود جينات أخرى مرتبطة بهذا المرض. أمّا بالنسبة للعوامل البيئية فقد أظهرت الدراسات احتمال ارتباط فيروسات معيّنة بالمرض كفيروس كوكساكي ب5 (Coxsakie B5) وفيروس الروبيللا (Rubella). ويعتقد العلماء أن الفيروس يسبب المرض عن طريق تحفيز الجهاز المناعي بشكل غير طبيعي مما يؤدّي إلى تدمير خلايا البنكرياس.
2ـ مرض السكّري غير المعتمد على الأنسولين (النمط الثاني) الذي يستحوذ على حوالي %90 من مرضى السكّري. ويتميّز هذا النوع بعدم قدرة خلايا الجسم على التجاوب مع الأنسولين رغم إفرازه بشكلٍ طبيعي من خلايا البنكرياس. يظهر هذا النوع عادةً بعد سنّ الأربعين وخاصةً مع زيادة الوزن.
وقد ساد الاعتقاد أنّ مرض السكّري من النمط الأوّل له أسباب وراثية بينما يظهر النمط الثاني لأسباب حياتية وبيئية بحتة كقلّة الحركة وزيادة الوزن وإتباع أسلوب غذائي غير صحي وغيرها. ولكنّ الدراسات التي تجري على قدمٍ وساق تدلّ بشكلٍ واضح على أسباب وراثية للمرض، فما هي هذه الدلائل؟
أـ الدراسات المرتكزة على التوائم المتطابقة وغير المتطابقة. فالتوأم المتطابق ينشأ من انقسام البويضة في مراحل تطورها إلى قسمين يؤدي كلّ منهما إلى نشوء جنين، وبهذا يكون التوأم متطابقاً وراثياً في كلّ الصفات. أمّا التوأم الغير متطابق فينشأ من جرّاء تلقيح بويضتين مختلفتين بحيوانين منويين، وبهذا ينشأ جنينان مختلفان وراثياً اختلاف الإخوة العاديين. وهكذا فإذا تشابه توأم متطابق في صفة معيّنة، كأحد الأمراض، فيعني هذا أن الصفة وراثية وليست مكتسبة بينما يقلّ تشابه التوأم غير المتطابق في هذه الصفة. وبذلك فإن دراسات التوائم في حالات مرض السكّري النمط الثاني قد أظهرت نسبةً عاليةً في التشابه عند التوائم المتطابقة.
ب ـ بينت الدراسات على العائلات المصابة بمرض السكّري النمط الثاني ارتفاع احتمالات الإصابة بالمرض عن الأقرباء من الدرجة الأولى في العائلة.
ج ـ أظهرت الدراسات التي أُجريت على الحيوانات أنّ تعطيل وظائف بعض الجينات يتسبب في عدم تجاوب الخلايا مع الأنسولين وغيرها من العوارض التي تميّز مرض السكّري النمط الثاني.
د ـ أسفرت الأبحاث التي تعمل على مسحٍ شامل للجينوم البشري، لتحديد مواقع الجينات المتعلّقة بالأمراض، عن اكتشاف مواقع كروموزومية كثيرة مرتبطة بالعُرضة لمرض السكّري النمط الثاني.
ويصعب تحديد النمط التوارثي لهذا المرض في معظم الأحيان، إلاّ أن هناك أنواعاً منه تُتوارث في العائلات بشكلٍ سائد ومنها سكّري الشبّان الناضجين. وقد عُرفت حتى الآن جينات كثيرة مسببة له. وأثبتت الدراسات أيضاً أن نسب الطفرات الوراثية في هذه الجينات تختلف باختلاف العرق.
ومع هذا لا تزال نحو %45 من العائلات المصابة به خالية من طفرات في الجينات المعروفة مما يعني وجود جينات أخرى مرتبطة به تنتظر الكشف عنها. ويتميز سكّري الشبّان الناضجين بعدم ارتباطه بالوزن الزائد، وبظهور ارتفاع في معدّل الدم في سنّ مبكر جداً، وبعدم حاجة المرضى إلى الأنسولين بشكل دائم، واقتصار العلاج على الأدوية أو توازن الغذاء.
وهناك أنواع أخرى من مرض السكّري النمط الثاني التي ترجع إلى اختلالات في البروتينات التي تعمل كمستقبلات للأنسولين على سطح الخلايا. وقد عُرف حتى الآن أكثر من 60 طفرة في الجينات المشفّرة لهذه البروتينات. وتجري الأبحاث للكشف عن الجينات التي تشفّر البروتينات المسؤولة عن انتقال الإشارة، التي تنشأ عند ارتباط الأنسولين بمستقبلاته، إلى داخل الخلية لتحفيزها على القيام بوظائفها في استقبال السكّر.
وقد وصلت مجموعات بحثية إلى مواقع معيّنة في الجينوم البشري تُظهر ارتباطاً بتوارث مرض السكّري، وهذه هي الخطوة الأولى في رحلة البحث عن الجينات المعرّضة للمرض. والملفت في الأمر اختلاف مواقع الجينات باختلاف الأساس العرقي للعائلات التي تحمل مرض السكّري النمط الثاني مما أدّى إلى إنتاج خريطة لمواقع جينات السكّري في كلّ الشعوب التي أُجريت عليها الدراسات، ولا تزال دولنا العربية تسعى في هذا الاتّجاه لترسم لنفسها الخارطة الخاصّة بها.
وبعد هذا، هل يمكن أن نقول إنّ الوراثة هي المسبب الوحيد لمرض السكّري أم أن أسلوب الحياة قد يلعب دوراً في ظهور المرض؟
تشير الدراسات إلى أن النظام الغذائي الصحي والتمارين الرياضية من شأنها أن تقلل من احتمال ظهور المرض حتى عند الأشخاص المتحدّرين من عائلات مصابة بالمرض. ويبدو أن التمارين تقلّل من الوزن وتزيد من تجاوب الجسم مع الأنسولين. وبذلك يمكن أن نستنتج أن الوراثة تعرّض للمرض ولكن أسلوب الحياة قد يطغى على تأثير الجينات في الإصابة بمرض السكّري..
د. نسرين بيسار تدمري -أستاذ مساعد، قسم الكيمياء الحيوية والوراثة كليّة الطبّ، جامعة الشارقة