في السادس والعشرين من سبتمبر 1989، اتخذ آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف خطوة إصلاحية على الصعيد السياسي، تمثلت في إصدار قانون يسمح بحرية النشر، سواء ما يتعلق بالكتب أو الصحف والمجلات، لينتهي بذلك دور الرقابة الصارمة التي كانت من سمات ومثالب الحكم السوفييتي منذ قيام الثورة البلشفية عام 1917.

كانت تلك واحدة من أهم خطوات الانفتاح السياسي التي نفذها غورباتشوف الذي وصل إلى السلطة بعد آخر القادة من جيل الحرس القديم وهو العجوز المريض العجوز قسطنطين تشيرنينكو الذي مات في ربيع 1985، والذي كان من قبله وهو يوري أندروبوف هو الآخر مريض واستمر في الحكم عاما. في البداية (1985).. تولى جورباتشوف رئاسة الحزب. ويعتبر الرابع عشر من مارس عام 1991الذي شهد انتخاب غورباتشوف رئيسا للاتحاد السوفييتي من قبل نواب الشعب، البداية لمسلسل أحداث مثيرة انتهت بانهيار الإمبراطورية السوفييتية التي اتسع نفوذها جغرافيا وسياسيا وعسكريا على مدى سنوات الحكم الشيوعي منذ الثورة البلشفية .

كانت ذروة الأحداث بعد أن جمع غورباتشوف كل السلطات في يده، هو يوم 19 أغسطس 1991، اذ قامت مجموعة من كبار القادة الشيوعيين السوفييت بانقلاب ضده، واعتقاله في منزله. ولكن الانقلاب فشل بعد 48 ساعة نتيجة المقاومة والاستنكار الذي أظهرته الأوساط الشعبية والسياسية ومساندة بوريس يلتسين الذي خلفه في زعامة الكرملين كأول رئيس لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وقتها قالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بصفتها ، آنذاك - خبيرة في الشؤون الروسية إنه كان من المؤسف أن يعود غورباتشوف إلى الحكم دون إدراك منه للتغيرات التي حدثت، وعندما انتهى الانقلاب كان بوريس يلتسين هو السلطة السياسية في روسيا وكان تنحي غورباتشوف مسألة وقت.

كان الاتحاد السوفييتي بالفعل مهيأ للسقوط حتى قبل وقوع الانقلاب ضد غورباتشوف. كانت هناك أحداث تاريخية متتالية تقع خارج الحدود. ففي أكتوبر 1990، توحدت الألمانيتان بعد أن أسقطت الجماهير سور برلين قبل عام من الوحدة.

وفي أبريل 1991، اعلنت جورجيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتي ، وفي أواخر أغسطس، من نفس العام مضت كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء «بيلاروسيا» على الطريق نفسه. بل ان روسيا( الحالية) الوطن الأم للإمبراطورية - أعلنت من جانبها هي الأخرى الاستقلال ، وصارت تسمى روسيا الاتحادية أو الفيدرالية.

تفككت الإمبراطورية تدريجيا.. البداية كانت انسلاخ جمهوريات البلطيق ( ليتوانيا ، استونيا، لاتفيا)، والنهاية استقالته في 24 ديسمبر 1991 مات الاتحاد السوفييتي الذي عاش ثلاثة أرباع قرن في ظل نظام شيوعي نخر الانغلاق عظامه وبدا العلاج الذي أتى به جورباتشوف لإصلاح حال الإمبراطورية وهو دواء البروسترويكا والجلاسنوست)، وكأنه سم قاتل أماتها بدلا من إنعاشها والتخلص من أمراضها.

كان الاقتصاد السوفييتي مترديا عندما تولى غورباتشوف سلطة الكرملين. فأطلق برنامجه الإصلاحي في فبراير 1986 تحت مسمى الجلاسنوست ( الانفتاح السياسي) والبرسترويكا ( إعادة البناء) وهو الاسم الذي حمله كتابه الشهير الذي صدر عام 1988وكشف للعالم من خلاله عن كل ما يدور في رأسه.

فاستحق أن ينال من الغرب جائزة التفوق - نوبل - عن سياساته وبرنامجه الإصلاحي الذي كانت نهايته سقوط القوة العظمى الثانية التي حفظت للعالم بعد الحرب العالمية الثانية توازنه . دعا غورباشوف إلى تخفيف قبضة السلطة المركزية على شؤون البلاد وخاصة في كل ما يتعلق بالاقتصاد.

اقترح قيام نظام أقل مركزية، يصاحبه انفتاح سياسي اقتصادي، مع تقليص سلطة الحزب الشيوعي وتوسيع سلطات الأجهزة الإنتاجية. وكان طبيعيا أن يقاوم الحرس القديم مثل هذه الإصلاحات التي اقترحها، لأنها تحد من سلطاتهم وامتيازاتهم ونفوذهم.

وفي الوقت نفسه بزغ نجم الحرس الجديد الذي طالب بأكثر مما اقترحه غورباتشوف من إصلاحات سياسية واقتصادية. وبسبب سياسة الانفتاح التي لم توضع لها ضوابط كفيلة للحفاظ على بنيان الدولة من الانهيار، بدأت الجمهوريات السوفييتية تطالب بحقوقها، أمام في الحكم الذاتي، أو الانفصال عن الاتحاد السوفييتي.

ويقول معلق وكالة نوفوستي الروسية ستيبان اورلوف : أعتقد بأن روسيا كلها ما عدا أقرب أنصار غورباتشوف تجمع على أنه لم يكن زعيما مؤهلا إلى الدرجة الكافية للرد اللائق على التحديات التي واجهها الاتحاد السوفييتي حينذاك سواء في الاقتصاد أم الثقافة أم العقيدة أم الشؤون الدولية وحتى مجرد العلاقات بين الناس.

وهناك العديد من الروس - بل ومعهم الذين يكتوون من نيران نظام القطب الواحد الذي يسود العالم الآن- يعتبرون غورباتشوف أسوأ حكام العالم في القرن العشرين، بسبب سياساته ودعواته الإصلاحية التي لم تكن متوازنة ومتريثة في التطبيق، والتي تسببت في النهاية إلى سقوط الدولة السوفييتية القوية، وظهور القطب الواحد ممثلا في الولايات المتحدة.

غورباتشوف، هو الآن في ذمة التاريخ. وانتهى به الحال الآن إلى أن صار من نجوم الإعلانات التجارية. ظهر في إعلان لحقائب جلدية فرنسية الصنع على صفحة كاملة. ويقال انه وافق مقابل تبرع سخي منها لمؤسسة «الصليب الأخضر الدولي» التي يرأسها.

إضاءة

عورباتشوف .. صار ينتقد الولايات المتحدة ورئيسها جورج بوش. قال بأنها تنشر الفوضى في أنحاء العالم من خلال سعيها لإقامة إمبراطورية. وان واشنطن سعت لبناء إمبراطورية بعد انتهاء الحرب الباردة ولكنها فشلت في فهم العالم المتغير.

وقال «الأميركيون خرجوا بفكرة إمبراطورية جديدة بعد الحرب الباردة في أن تقود العالم قوة واحدة.. فماذا حدث بعد ذلك.. ما حدث بعد ذلك هو تحركات من جانب واحد وتجاهل لمجلس الأمن الدولي والقوانين الدولية وإرادة الشعوب بما فيها الشعب الأميركي.

ويضيف«عندما أنظر إلى عالم اليوم ينتابني شعور بالقلق بشأن تنامي الفوضى في العالم». جورباشوف لا يحظى الآن بأي شعبية في روسيا. ورغم الحفاوة التي يلقاها في الخارج يلقي الروس عليه مسؤولية انهيار الامبراطورية السوفييتية.

حسن صابر