ما ان تحط الرحال في بيته حتى تشم رائحة القهوة العربية بهيلها وزعفرانها ويغريك حسن الاستقبال حتى دخل المجلس ودعانا للجلوس لنرى ابناءه وقد اكتسوا ثوب الرجولة الموروثة من هذا الينبوع الذي يسقي الحي ولا تنضب له قطرة، يتحلقون حوله مقبلين رأسه من اكبرهم عبدالله الى اصغرهم غيث.
انه مطر الصيري الشاهد على كل العصور والذي حدثنا طويلاً ليستعيد الماضي في صيغة الحاضر حتى لتخاله فرادة عصره، عمل ولم ينتظر ان تمطر عليه السماء ذهبا او فضة، فعرف ان الغنى غنى النفس وان سؤال الآخرين فيه مذلة.. وصفة الاعتزاز بالنفس عاشها وعلمها لأولاده حتى انه يخال نفسه بكل واحد فيهم من جلد ومثابرة وعلم وتفان. من مواليد ابوظبي وانتقل ايام البطاقة للعيش في دبي فكان مسكنه مجاورا لبيت المغفور له الشيخ سعيد في منطقة الشندغة. درس التعليم النظامي في مدرسة زينل العام 1958ويذكر من زمن المطاوعة الشيخ بن حافظ محمد نور واحمد بن ضبوي وبن ثنية ومن زملاء الدراسة عبد الرحمن الرستماني وعبدالله الجلاف ومن المناهج التي كانوا يدرسونها النحو والسيرة وتجويد القرآن وكذلك الحساب والذي يشتمل بدوره على الضرب والقسمة والجمع والطرح.
البحث عن لقمة العيش ... الحياة لا تطلب بل تؤخذ هكذا علمنا آباؤنا واجدادنا. ان سؤال الناس عيب مادمت قادرا على العمل. فلا يجوز ان تجلس بالبيت، وانا بدوري ما ان انهيت الدراسة حتى اصبحت اسافر على المحمل ليس للصيد بل للتجارة، فكنا نأخذ المحار بعد فلقه واستخراج اللؤلؤ الذي بداخله الى ايران والهند ومسقط، وكان السفر في ذلك الوقت مضنيا لما يستغرقه منك من وقت ومشقة ولكننا كنا نوصل بضاعتنا ونرد محملين الى دبي، وننسى التعب بمجرد الوصول الى الديرة وملاقاة الأهل والاحباب، وكانت اكثر سفراتنا الى جزيرة (قشم) قشم صوب فارس على الساحل الايراني، ومن ثم الى مسقط.
وكنا نعمل مع حميد الطاير في نقل المؤن والمسافرين، ومما لا انساه انه في كل عمان لا توجد دوائر حكومية او تخليص معاملات او حتى تصوير إلا في مسقط فعند وصولنا الى الساحل كنا ننتظر وقتا طويلا للانتهاء من اجراءات المعاملات وتخليص الجوازات لنعود مرة اخرى لطلب النصيب والرزق، وكانت رحلتنا يلزمها عشرة ايام نقضيها في عرض البحر. ثم انتقلنا للعيش في ديرة واصبحنا سكان بر بعد ان كنا ساكني بحر، وتركنا العمل بالمحمل للعمل على السيارات واذكر جيدا نوع السيارة بيت فورد وكنت في يوم احمل طلبية ومتجها بها الى خورفكان فأخذ مني الطريق ثلاثة ايام الى ان وصلت، وكانوا ينتظروني على أحر من الجمر خشية عليّ، واتوقع يومها انه بسبب تأخري ذهب التجار ولكن الكل قال لي «شغلتنا عليك ياريال والحمد لله على السلامة» اي انك لا تجد كلمة تأنيب، فالكل يحب الكل ويخاف عليه. وايضا لعدم وجود طرقات كنا نسير بمحاذاة البحر وعندما يرتفع البحر نأخذ الى الأعلى وكانت في ذلك الوقت الامطار غزيرة والرمل يتحول الى طين، فكنت ذاهبا بسيارتي وعلى متنها 150 كيس اسمنت فغرزت السيارة في منطقة جبل علي فبقينا خمسة ايام الى ان اخرجناها.
الزواج والمشاركة
كما اسلفت لك كان الناس يشاركون بعضهم دون منية لأحد على الآخر في الافراح او الاتراح وكل الامور الحياتية فأنا اتذكر في ذلك الوقت ايضا انه لايوجد كهرباء وكان عليّ لأتمم مراسم زواجي ان اشتري او استأجر «تريكات» فوانيس صغيرة لتوليد الكهرباء وكنا نأخذها من عند «القراشي» وعندما تزوجت وكان المهر في ذلك الوقت 300 درهم، وتمت مراسم العرس في شارع البدور بسوق مرشد، وليس مثل النمط السائد اليوم.. فندق وحفلة للحريم وحفلة للرجال، هذا الكلام لم يكن موجودا ولكنها كانت برأيي اياما جميلة للنسق الاجتماعي السائد في ذلك الوقت.
بناء مطار دبي
اثناء بناء مطار دبي عام 1962 كنا نجلب الحصا «القلال» من وادي كدرا في رأس الخيمة وكان معي غانم بن ناصر واذكر وقتها اثناء التحميل هطل المطر فاحتجزنا الى ان توقف وجفت الارض وفي وقتها طلب صاحب السمو الشيخ صقربن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم امارة رأس الخيمة، اطال الله في عمره، بأن من اراد العمل في الإمارة عليه بتشغيل البدو، وكنا نعطي للفرد 5 روبيات في اليوم لقاء عمله، لكننا اكتشفنا ان خسارتنا محققة لأن هذا العمل لا يتناسب وطبيعة البدوي. غيرنا المكان وذهبنا الى وادي صلوخ وكان سعر المتر 20 فلسا..
ثم اتجهنا للعمل بالكنكري واتفقنا مع البدو على جمعه وتركه الى عودتنا ومن ثم تحميله لأنه لا توجد كسارات في ذلك الوقت، فيقوم اخواننا بجمع الحصا في مجموعات، وكنا عند عودتنا من دبي وحيث ان مناطق البدو لا توجد بها بقالات او محال تجارية، كنا نجلب لهم معنا «راشن» مواد غذائية، فنعطيهم نصف اجرهم غذاء والنصف الآخر نقودا، فنحن من اسهم بالبنية التحتية للمطار بكل مشقتها وتعبها.
رؤية راشد
دبي خير من يوم يومها.. والكلام ما أتى عن عبث، فالمغفور له الشيخ راشد صاحب رؤية، وكان يقول لنا في مجلسه اياكم والجلوس في بيوتكم نحتاج سواعدكم وانا لا احب الرجل الذي لا يعمل وسأقدم لكم كل التسهيلات، لذلك كانت رؤية المغفور له الشيخ راشد بعيدة ولا تقتصر على عام او اثنين بل هو من اسس ما نحن عليه الآن.
واذكر عندما تم بناء جسر المكتوم كانت هناك غرفة للموظف يتقاضى روبية واحدة على السيارة الكبيرة مرة واحدة ليس ذهابا وايابا ونصف روبية للسيارة الصغيرة، وبعد شهرين اصبح يؤخذ نصف روبية عن السيارة الكبيرة واربع «انات» ـ من اجزاء الروبية ويعادل اربعة قروش ـ وكنت تأخذ ورقة كإيصال من الموظف مقابل الدفع وبعد عامين اصدر المغفور له قرارا بمنع تقاضي النقود مقابل استخدام الطريق..
وكنا نحتاج اوراقا ثبوتية في ذلك الوقت عند الذهاب الى ابوظبي او العين وكانت هناك مراكز للدخول، فمثلا في ابوظبي سيح الشعيب حيث نقطة التفتيش كذلك العين مركز الساد، لذلك كنا دائما في مجلس الحاكم لإعطاء الموافقة لاستخراج الأوراق الثبوتية، وكنا ندخل مجلسه بعيدا عن المظاهر للمسؤولين من حرس وامن، فهو واحد منا ونحن نعتبر ابناءه.. وما يميز دبي منذ الأزل الامن والأمان الذي انعمه الله عليها.. اذكر اول مركز للشرطة اقيم في منطقة نايف وكنا نراهم وهم يؤدون طابور الصباح وكانوا كلهم من اولاد البلد.
عيسى بو حميد: مدرسة يتعلم منها الجميع
عيسى بو حميد رجل اعمال: لا تصف الكلمات من يراد وصفه.. ان مطر الصيري مثال لكل القيم الحميدة ودائما يده ممدودة للخير لا يبخل بنصح او بمشورة او بمال على احد، لذلك عندما تصادقه تعرف عنه الصداقة في أبهى معانيها، خرّج من مدرسته اشبالا يشار لهم بالبنان في الأدب والاخلاق الحميدة، منذ صغره يحب العمل والاجتهاد وقل ان تراه جالسا لا يعترف بالسن مطلقا لأنك دائما ستراه شبابا.
عتيج بن حامد: رجل لكل الأوقات
عتيج بن حامد رجل اعمال: اخجلتني بهذا السؤال فهل يسأل الانسان عن نفسه؟.. ان مطر الصيري هو انا.. وانا كذلك هو، ولكنني استطيع القول انه الصديق الصدوق والرجل الذي تحترمه مهما اختلفت معه لأنه صاحب دراية وبصيرة ويدفع كل ما عنده لإصلاح ذات البين، عرف التعب منذ صغره وذاق حلاوته فترى ان ابناءه يشبهونه ادبا وعلما وسلوكا من اكبرهم الى اصغرهم وما يميز هذه العائلة انها مازالت محافظة على ترابطها وكل ذلك بفضل الوالد.
إضاءة
مطر الصيري من جيل الآباء المؤسسين، ولد في أبوظبي وانتقل للعيش بدبي في منطقة الشندغة. درس في مدرسة زينل 1958 ليعمل بعدها على «المحمل» المركب الذي يمتلكه والده ناقلا بضائع من دبي الى كل من مسقط وايران والهند. بعدها عمل على سيارة بيت فورد ومن ثم موظفا في الدائرة الخاصة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد من العام 1976 الى 2005 ليتقاعد من العمل، ولكنه لم يتقاعد من حب بيته وأولاده وبلده.
وقد كرمه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي بمنحه جائزة الأداء الحكومي المتميز مع أبنائه في مايو عام 2005، تقديرا لجهودهم ومبادرتهم الخيرة للمساعدة في سحب مياه الأمطار، والسعي لتجفيف شارع الإمارات خلال فترة هطول الأمطار الغزيرة في أنحاء الدولة المختلفة خلال ذلك العام.
عبد المنعم الشديدي