تمثل أفغانستان حالة خاصة في السياسة الأميركية، فمنها اصطادت الدب السوفيتي في العام 1979، عندما استدرجته لاحتلال أفغانستان. وكان هذا الغزو من أسباب تفكك الدولة السوفيتية، ويومها اعتبرت الولايات المتحدة ما جرى انتصارها التاريخي، على الرغم من أنها لم تطلق في رصاصة واحدة في حرب دامت نحو عشر سنوات بين الجيش الروسي والمجاهدين الأفغان، إذ اكتفت واشنطن بتحريك الخيوط من خلف الستار فزودت المجاهدين بالمال العربي والسلاح الغربي.
هذه الحرب هي التي شجعت من انتصر من المجاهدين على تكرار نفس السيناريو لاصطياد الولايات المتحدة والاستفراد بها وسط جبال أفغانستان، سعيا لهزيمتها وتخليص العالم منها. وسرعان ما تحقق لأصحاب هذا المسعى هدفهم، حيث حضرت الولايات المتحدة إليهم في الجبال الأفغانية كما أرادوا، بعدما ضربوها في قلب دارها في الحادي عشر من سبتمبرعام2001، وأسقطوا جانبا كبيرا من هيبتها العالمية.
اليوم، وبعد نحو سبع سنوات لا يبدو في الأفق إمكانية تحقيق انتصار أميركي على الخصوم الأفغان وحلفائهم من تنظيم القاعدة. وكأن أميركا المأزومة اقتصاديا أوشكت على تجرع السم الأفعاني الذي سبق وتجرعه السوفييت. هذا الواقع المأزوم والمحاصر وسط جبال أفغانستان الشاهقة، حذر منه الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه عندما أشار في أكثر من مناسبة إلى خطورة الوضع العسكري الأميركي في مسرح العمليات الأفغاني.
كما حذر منه كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية وفي مقدمتهم كل من روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي الذي وصف الوضع في أفغانستان بأنه (أكبر تحد للولايات المتحدة)، كما وصفه ريتشارد هولبروك المبعوث الأميركي لكل من أفغانستان وباكستان بأن(واشنطن لم تواجه مثيلا للأزمة التي تكابدها في أفغانستان)، متوقعا أن تستمر الحرب ضد طالبان والقاعدة طويلا.
انتصارات طالبان
طوال السنوات السبع الماضية من الحرب استطاعت طالبان منازلة الولايات المتحدة وقوات حلف الأطلسي الموجودة في مسرح العمليات، وتمكنت من إلحاق العديد من الهزائم بها. فطالبان التي نشأت من رحم الأزمات، استطاعت أن تكتسب ثقة قطاعات واسعة من الشعب الأفغاني، خاصة أبناء قبائل البشتون الذين يمثلون الطائفة الأكبر داخل الشعب الأفغاني، ونجحت في تقديم نفسها بوصفها حركة تحرر وطني إسلامية قادرة على هزيمة الجيوش المحتلة، وساعدها على ذلك عدة عوامل:
(1) عدم تمتع الولايات المتحدة والحكومة الموالية لها برئاسة حامد قرضاي بثقة عامة الشعب الأفغاني لعدم وفائهما بالوعود التي قطعاها بشأن تغيير حياة الأفغان إلى الأفضل، إلى جانب تفشي الفساد داخل أجهزة الحكم، وضعف الجيش الأفغاني وعجزة عن مواجهة طالبان. وقد شهدت الفترات الماضية تراشقات وسط اتهامات متبادلة بين الطرفين الاميركي والافغاني.
(2) تورط القوات الأميركية الأطلسية في جرائم قتل المدنيين، وتكرار ذلك بشكل شبه دائم يثير سخط الأفغان ضد المحتلين، ويكرس الاعتقاد بان الجيوش الغربية جاءت لقتل عموم الأفغان وليس طالبان.
(3) تورط القوات الأميركية في عمليات تنصير، وهو ما ثبت من خلال توزيع أناجيل مكتوبة بالعديد من اللغات الأفغانية ومنها الباشتو لغة الطالبان، مما أعطى الحرب طابعا دينيا، وبأنها تجري في إطار حرب صليبية تشن ضد الإسلام، وهو ما كانت تحذر منه طالبان، فقوى ذلك مصداقيتها عند الشعب الأفغاني.
(4) عودة زراعة المخدرات إلى أفغانستان، مصحوبة بعودة أمراء الحرب والعصابات الخارجة على القانون، الذين تفشت معهم الفوضى وانعدام الأمان، وهو ما كانت طالبان قد تمكنت من القضاء عليه في وقت وجيز، خلال وجودها في السلطة، حسب تقارير الأمم المتحدة، مما أضعف مصداقية وهيبة الحكومة والاحتلال الأميركي. فأفغانستان تنتج اليوم، حسب تقارير دولية، نحو 92% من إنتاج العالم من المخدرات.
وفي مقابل هذا التأزم استطاعت حركة طالبان اكتساب أنصار جدد، منهم الناقمون على جرائم الاحتلال التي طالت ذويهم، وتمكنت من فرض سيطرتها على أكثر من ثلث مساحة البلاد حسب التقارير الغربية، ونحو النصف حسب روايات الحركة. ووفق تصريحات قادة الحركة فإنهم يتمتعون بقوة قتالية عالية العدد والعدة من المقاتلين المتمرسين على فنون الحرب والقتال، وقد شكلت الحركة مجلس شورى مكون من 19 شخصا يديرون أمور البلاد، مما يعني أنها استعادت كامل قوتها على كل الأصعدة، إذ قامت أيضا بتعيين أمير في كل ولاية أو مديرية تحررها.
هذه العودة القوية لحركة طالبان مكنتها من محاصرة الوجود العسكري الأميركي الأطلسي في المدن الكبرى فقط، وذلك على الرغم من التفوق النوعي والتقني لدى القوات الغربية المحتلة، فيوجد في أفغانستان نحو 70 ألف جندي أطلسي، بينهم 33 ألف أميركي، ومنهم 17 ألفا تحت قيادة أميركية والباقون تحت القيادة العسكرية والعملياتية للحلف الأطلسي.
إستراتيجية أوباما
هذا التأزم هو ما حرك الرئيس باراك أوباما وحفز إدارته على إعادة النظر في السياسة المتبعة تجاه أفغانستان، فأعلن استراتيجية جديدة ذات شقين: سياسي وعسكري.
سياسيا: اعتمدت الاستراتيجية جانبين: هما دعوة طالبان للحوار، والتحالف مع دول الحوار وتدويل المساعدات والإعمار.
الأول- دعت الولايات المتحدة حركة طالبان إلى الحوار، مشترطة أن يتم ذلك مع من لا يرتبطون بعلاقات مع تنظيم القاعدة، كما دعا الرئيس الأفغاني حامد قرضاي الحركة إلى وضع السلاح والدخول في الحكومة مع وعد بتوفير مكان آمن وحياة طيبة للملا محمد عمر رئيس الحركة، لكن هذه الدعوة قوبلت من طالبان برفض قاطع، واشترطت تحقيق ثلاثة مطالب أساسية للحوار، وهي:
(1) الإفراج عن كافة المعتقلين من الشعب الأفغاني في معتقلي باجرام أو جوانتانامو أو غيرهما.
(2) شطب الحركة وقادتها من قوائم الإرهاب الأميركية.
(3) إعلان الانسحاب من البلاد من دون شروط. وقد نفت الحركة حدوث أية اتصالات مع الولايات المتحدة الأميركية، موضحة أن واشنطن تعلن عن الحوار وفي الوقت نفسه تواصل قتل الأفغان دون توقف.
الثاني ـ سعت الولايات المتحدة إلى التعاون مع دول الجوار الأفغاني من أجل توظيف إمكاناتها في حصار طالبان على كل المستويات، ومن أجل ذلك بدأت في التقارب مع إيران في إطار صفقة كبرى بين الطرفين، وتشارك طهران واشنطن العداء لحركة طالبان، بل انها حذرت من أي حوار معها.
كما سعت واشنطن إلى توظيف القدرات الباكستانية على ذات الصعيد، من خلال التعامل مع باكستان وأفغانستان بوصفهما مشكلة واحدة، ومن أجل ذلك عينت لهما مبعوثا واحدا هو ريتشارد هولبروك، وقيادة عسكرية واحدة، بل أن الرئيس الأميركي أوباما استدعى الرئيسين الأفغاني والباكستاني سويا في السادس من مايو الجاري إلى واشنطن، مع تصاعد أزمة وادي سوات الباكستانية.
وطلب منهما العمل معا ضد طالبان والقاعدة في الدولتين، خاصة مع تصاعد الاتهامات والشكوك المتبادلة بين الحكومتين، فباكستان تتهم أفغانستان بأنها تزود متمردي سوات بالأسلحة، إلى جانب تحول أفغانستان إلى بؤرة تهديد إقليمي لها، من خلال توسيع التحالف العسكري والاستخباري مع الهند العدو التقليدي لباكستان.
وفي الوقت ذاته تتهم أفغانستان باكستان بأنها تزود طالبان بالأسلحة والعتاد، خاصة من جانب جهاز المخابرات العسكرية الذي تتهمه أفغانستان صراحة. وعلى الرغم من التوافق الذي جرى بين الرئيسين الأفغاني حامد قرضاي والباكستاني آصف زرداري في واشنطن إلا انه لم يختبر بعد، حيث يجابه بتحديات ثقيلة وشكوك عميقة متبادلة قد تنال من صموده طويلا على الأرض. أما إيران فغير مستعدة بعد لتقديم خدمات مجانية إلى أميركا، خاصة وأنها تعيش انشغالات الانتخابات الرئاسية، كما أنها لم تر بعد تغيرا حقيقا في الموقف الأميركي من طموحاتها النووية والإقليمية.
الجانب العسكري
عسكريا:تعتمد استراتيجية الرئيس أوباما على تغيير الخطط والتحركات على عدة اصعدة هي:
الأول- زيادة القوات الأميركية إلى نحو60 ألف جندي. وقد صدق أوباما في فبراير الماضي على قرار ارسال 17 ألف جندي أميركي. كما تعتمد الاستراتيجية على زيادة عدد أفراد القوات الأطلسية، ليصل مجموع القوات الغربية إلى نحو 120 ألفا. كما تعتمد الاستراتيجية أيضاً على رفع أعداد الجيش الأفعاني من 80 ألفاً إلى 134 ألفا، مع رفع كفاءته القتالية، وتحسين تسلحه، ومطاردة طالبان عسكريا في كل مكان، في إطار التعامل مع الأزمة الأفغانية الباكستانية كوحدة واحدة.
الثاني- توسيع رقعة وجود القوات الأميركية الأطلسية لتشمل مدنا ومناطق جديدة للتضييق على طالبان والقاعدة عسكريا.
الثالث- استمرار الضربات الجوية في منطقة القبائل الباكستانية، وفي مناطق تجمعات طالبان. وتلعب الطائرات المقاتلة بلا طيار دورا هاما وحيويا على ضوء المعلومات الاستخبارية في هذه الضربات.
الرابع- إغراء القبليين المحليين على الانضمام إلى تشكيلات عسكرية على غرار الصحوات العراقية لمحاربة طالبان والقاعدة، وشراء الولاءات بالمال وغيره، ومن الطرائف أن الولايات المتحدة قامت في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش بتوزيع حبوب الفياجرا على بعض زعماء القبائل لشراء ولاءاتهم ومكافأة بعضهم على تعاونهم معها، لكن الفياجرا لم تجلب النجاح الذي كانت تنشده واشنطن.
صعوبات ومعوقات
وقد واجهت استراتيجية أوباما صعوبات جمة منذ البداية، ومن ذلك تردي الوضع الأمني في العراق، فالقوات الأميركية التي سترسل إلى أفغانستان سيتم سحبها من العراق. يضاف إلى ذلك رفض الدول الأطلسية الاستجابة إلى المطالب الخاصة بزيادة عدد القوات أو توسيع مهامها، فكل من فرنسا وألمانيا رفضتا ذلك تماما، وكل ما عرضته ألمانيا نحو خمسين مدربا عسكريا لتدريب الجيش الأفغاني، إلى جانب أنها ترفض تحريك جنودها خارج مهامهم العاصمة الأفغانية، على خلاف ما ترجوه الاستراتيجية.
كذلك ترفض فرنسا الاستجابة للزيادة المقترحة في قواتها وخاصة بعد الضربة المؤلمة التي تلقتها قواتها في أغسطس الماضي عندما خسرت عشرة جنود في معركة واحدة، مما ألب الفرنسيين ضد سياسات رئيسهم تجاه أفغانستان. ولم تستجب سوى بريطانيا، من دون تحقيق كافة طموحات أوباما. وجاء تغيير قائد القوات الأميركية في أفغانستان هذا الشهر ليزيد من الصعوبات، فهذا يعني ان القادة العسكريين لا يعتبرون استراتيجية رئيسهم ناجحة على الأقل في شقها العسكري.
يضاف إلى جملة الصعوبات أن الطموحات التي تعول عليها الولايات المتحدة بشأن الجيش الأفغاني ليست الا طموحات على الورق، فهذا الجيش غير مؤهل عسكريا، ولا يحظى بدعم شعبي بسبب تواطؤه من الاحتلال، إلى جانب ان تأهليه ليصبح جزءا حيويا من خطة أوباما يتطلب ما يزيد على العام تدريبا وتسليحا.
وتواجه القوات الأميركية في أفغانستان حصارا لوجستيا من دول الجوار، فالجيش الأميركي لا ينجح عادة في توصيل المؤن والعتاد إلى قواته في أفغانستان عبر باكستان، بعد نجاح طالبان باكستان في ضرب قوافل الإمداد. يضاف إلى ذلك أن إغلاق قرغيزيا لقاعدة ماناس العسكرية الأميركية على أراضيها سد منفذا حيويا للإمدادات، مما يصعب من موقف الإدارة الأميركية أمام كل من روسيا وإيران والصين، على الرغم من تخوفات هذه الدول من طالبان والقاعدة.
ثغرات إستراتيجية
وقد اعترف وزير الدفاع الأميركي مؤخرا بوجود ثغرات في الاستراتيجية الأميركية تتعلق بالجانب المدني، مثل الاعمار وتوفير الاحتياجات المعيشية والخدمية للأفغان، مشيرا إلى إمكانية مساهمة جنود الاحتياط في ذلك، حتى يتم إيجاد البديل المدني. وتمثل القضية الحياتية هدفا أميركيا مهما لاستمالة الشعب الأفغاني بعيدا عن طالبان. ولهذا انعقد مؤتمر لاهاي في الثاني من إبريل الماضي، والذي حضرته نحو ستين دولة ناقشت فيه إستراتيجية أوباما، لكن يبدو أن هذا التعدد سيهدر حبر الاستراتيجية بين الدول، قبل أن يهدر دماء خصومها من القاعدة وطالبان.
وفي هذا السياق لا يمكن الفصل بين صعوبات هذه الاستراتيجية وبين تراجعات الرئيس أوباما في ميدان التعامل القانوني مع معتقلي طالبان والقاعدة، فهو الذي وصف معتقل جوانتانامو في أول أيام حكمه بأنه يغذي الناقمين على أميركا، لكنه اليوم يتراجع عن تصفية المواقف القانونية للمعتقلين فيه، ويتمسك باستمرار احتجازهم، ويعيد إحياء المحاكم العسكرية.
ومن ثم فان ما طالبت به طالبان من الإفراج عن معتقليها، كشرط للحوار، لا يجد أذنا عند الرئيس باراك أوباما، وانما يجد تشددا، يزيد من غضب الناقمين على أميركا في أفغانستان.غضب يقوي الكراهية لها، خاصة مع استمرار معتقل باجرام الرهيب حيا نشطا على الأرض الأفغانية. ولهذا كله فان استراتيجية الرئيس أوباما التي تنبع من مقدمات عقيمة سوف تنتهي إلى نتائج عقيمة، لأنها اخترقت من جانبه أولا قبل ان تخترق من أعدائه.
إضاءة
تقع أفغانستان في وسط آسيا، وتحدها إيران غربا،. ومن الشمال طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وتحدها باكستان من الجنوب والشرق. وأفغانستان أرض جبلية، وتصل ارتفاعات الجبال بها إلى الخمسة آلاف متر، مما يجعلها أرضا مثلى لحروب العصابات.
وطوال التاريخ لم ينجح غاز أو محتل في إخضاعها بالقوة العسكرية. ويتكون المجتمع الأفغاني من عدة أعراق، يعد البشتون أكثرها عددا ويشكلون نحو 35% من السكان، يليهم الطاجيك بنسبة 27%، والهزارة 17%، والأوزبك9%. ويتحدث الأفغان عدة لغات، وتعد الباشتو الأكثر انتشارا. ويعتنق معظم السكان الإسلام، ويشكل السنة منهم نحو 74% بينما يبلغ الشيعة20%، بالإضافة إلى وجود أقليات دينية أخرى مثل السيخ الهندوس.
كتب ـ المحرر السياسي