قدم العلامة محمد خير الدين الأسدي (1900 ــ 1971)، إسهامات نوعية في مجال الفقه، وكانت له مواقف مميزة في مختلف المجالات. وهو مولود في حيّ الجلوم الذي يقع داخل سور مدينة حلب عام 1900 م ــ 1319 هـ، لأبوين حلبيين، هما عمر رسلان (والده) الذي كان رجل دين، وعمل أستاذاً لمادّة اللغة العربية والصرف في المدرسة العثمانية والمدرسة الخسروية. وأمّه هي شماع التي كانت من أسرة اشتهرت بالتجارة.
تلقى خير الدين تعليمه الأوّل، في مكتب «شمس المعارف» الذي أنشأته الحكومة العثمانية عام 1904، وكان الطفل يتردد عليه بين الحين والآخر كطالب مستمع، حيث كان يعلّم والده، ثم تابع تحصيله العلمي في «المدرسة الرشيدية». وذات يوم اطّلع والده على كتاب يدرس فيه ابنه، وهو كتاب تركي في الفقه، «كتاب علم حال» فلم يعجبه، فأخرج الولد نهائياً من «المدرسة الرشيدية»، وألحقه «بالمدرسة العثمانية»، فأعطي غرفة فيها وأصبح مجاوراً كسائر المجاورين فيها، وكانت أمه تنفق عليه بسخاء وهو يشتري الكتب، حتى أسس وهو في العشرين من عمره، مكتبة خاصة، ساعدته على التبحر في جزئيات المسائل النحوية واللغوية. وكان في العثمانية فحول العلماء، أمثال: الشيخ بشير الغزي مدرّس النحو، والشيخ محمد الحنيفي مدرّس البلاغة، والشيخ محمد الزرقا مدرّس الفقه، وغيرهم من أساتذة التفسير والحديث وأصول الدين، فراح الأسدي يأخذ عنهم.
«أكبر خزائن الفكر في سوريا ولبنان»
لم تكن العلاقة بين الشيخ عمر وزوجته (والدا خير الدين الاسدي)، علاقة ودّية صافية. وسرعان ما انتهت بالطلاق، وتلك أولى الصدمات التي تلقاها خير الدين وهو في سن المراهقة، ولم تلبث أن تزوّجت والدته، فانتقل معها ليسكنا في حيّ العقبة. وقد وطن الأسدي نفسه منذ صغره، على الدأب والتفرغ العلمي، فكان يصرف الليالي الطوال بالدرس، وكان ينفق كل ما يكسبه على شراء الكتب واقتناء التحف، حتى أسس مكتبة تعدّ من أضخم المكتبات الخاصة في المدينة، أشار إليها الكونت «دي طرازي»، في كتاب له: «تعدّ مكتبة الأسدي من أكبر الخزائن في سوريا ولبنان». ودفعه اعتزازه باللغة العربية، إلى تغيير كنيته من «رسلان» إلى «أسد»، ثم أضاف إليها ياء النسبة في تصوير مؤلفاته، فأصبحت «الأسدي» وقدّمها على الاسم. وبدأ حياته التدريسية معلماً في المدرسة «العربية»، ثم في المدرسة «الشرقية» ثم في المدرسة «الفاروقية»، وخلال هذه الفترة ألف كتابه «قواعد الكتابة العربية»، وذلك في عام 1341 هـ. وفي عام 1922 م كان أوّل من خلع الطربوش، قائلاً: «لم يسبقني إلى خلعه أحد». وفي عام 1923 م قرّر إخراج مسرحيته «الاستقلال» مع بعض طلابه من مدرسة الفاروقية، وفي يوم العرض وضع في كيس كمية من البارود فانفجرت في يده، لكنه كان طالبا من الطلاب في العرض فاستمر في إكماله ومن ثم أغمي عليه، فتمّ إيقاف العرض وإخراجه منه، وبعد أيام فقد كفّه اليسرى، إثر مداواة فاشلة، ثم ترك التدريس في المدرسة الفاورقية نهائياً. ولم يكن يزور والده إلا لماماً، وكان كلّما عاتبه الوالد في ذلك، يقول: «أنا لا أكرهك يا أبي، ولكني مشغول بالقراءة والبحث، كما أني أحب الانطواء والتفرد».
لقد أعلن الأسدي امتناعه عن أكل اللحم ومشتقاته مكتفياً بالأغذية النباتية. وهنا فإن قراءاته المتعمقة للمعري وفلسفته، واطلاعه على الفكر الهندي والمناضلة الجسدية، قد هيأته لاتخاذ هذا القرار. بعد تركه المدرسة الفاروقية أخذ يدرّس العربية في مدرسة «هايكازيان» الأرمنية، وعرّب مع زميل له هو «تشيستويان بارسيخ»، ملحمة «عروج أبي العلاء» للشاعر الأرمني اسحاقيان، ثم علّم في «اليانس»، وهي مدرسة لليهود يصل إليها القاصد عن طريق جادة الخندق، ثم ما لبث أن تعاقد مع الكلية العلمانية «اللاييك»، التي سُميت فيما بعد: «المعهد العربي الفرنسي»، وقد ظل فيها إلى أن أحرقت في تظاهرة شعبية، وخلال هذه الفترة أصدر كتابه «البيان والبديع»، وكذلك ترجمته لعروج أبي العلاء، وبعض المقالات اللغوية. وفي عام 1940، توفي والده، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وقد صادفت طقوس الدفن حالة منع التجول، فبينما كان الابن يسير مع بعض المشيعين، أوقفتهم دورية فرنسية وأمرتهم بفتح التابوت لتتأكد من عدم وجود أسلحة فيه.
مرحلة الصوفية
ابتدأ الأسدي بعد وفاة والده، في خوض غمار عيش مرحلة صوفية، امتدت حتى نهاية حياته، كان يكتب فيها كتاب «أغاني القبة» الذي قدم في إذاعة طهران، ثم تم طبعه عام 1950. ومرض خير الدين عام 1945 مرضاً خيل إليه أن الموت قرب منه، فقرر أن يهب مكتبته إلى مؤسسة خيرية ليتقاضى على ذلك مبلغاً من المال يعوله في حياته، فقرر تقديم المكتبة إلى دار الكتب الوطنية، لقاء مرتب شهري يحدده هو، كما اشترط أن تسند إليه وظيفة قيم فرع الاختصاص ليرشد الباحثين والمؤلفين إلى المراجع، لقاء مرتب شهري قدره 250 ليرة سورية، بالإضافة إلى هبة المكتبة وقدرها 150 ليرة سورية. وبعد مدّة وقع خلاف بينه وبين رئيس البلدية، فأقيل من وظيفته وظل يعيش على هبة المكتبة وما يأتيه من تدريس بضــع ساعات يكلف بها، ثم ما لبث أن حرم من هبة المكتبة، بحجة أنه أخذ تعويضات توازي أو تفوق قيمة المكتبة، وقد كتب بخط يده العبارة التالية: «إذا امتنعت البلدية عن دفـــع المبلغ المتفق عليـــه يحق للفريـــق الثـــاني أن يسترد مكتبته، وعندئذ تعتبر الاتفاقيــة ملغاة».
وألغيت الاتفاقية ولم يسترد كتبه. وفي عام 1946، قام برحلته الأولى إلى فلسطين ومصر، وفي العامين التاليين زار تركيا مرتين، ثم قام في عام 1949 م برحلة إلى العراق وإيران، وفي هذا العام تلقى الأسدي صدمة قاسية بوفاة والدته، رفيقة دربه لأكثر من خمسين عاماً. وفي هذه الفترة أصدر كتابه: حلب الجانب اللغوي من الكلمة». وكان العمل في موسوعته الكبرى يأخذ منه كل وقته. وكان يرتاد المقاهي، ويلتقي بالناس، أو يسافر، وانكب على تدوين الملاحظات، ليعود إلى داره فينسق ويحقق ويسجل، حتى يصل إلى كلمة تأخذ مكانها في قاموس حلب التراثي العظيم .
أحاديث من إذاعة حلب
انتسب الأسدي إلى «جمعية العاديات» التي تهتم بجمع تراث مدينة حلب، وعيّن فيها أميناً للسرّ، ثم أصبح نائباً للرئيس. ولم يلبث أن ترك التدريس في المعهد الفرنسي بعد أن اندلعت النار فيه سنة 1956، وحصل على تعويض مادي اشترى به أسهماً في شركة الغزل والنسيج، لتكون مورداً ثابتاً يعيش منه، لكن الشركة أممّت وخسر بذلك ما له فيها. وفي عام 1970 زار سدّ الفرات، ولمّا رأى عظمة المشروع، قال: «أنا الآن سامحت الحكومة بأموالي التي أخذتها ما دامت تصرفها على هذه المشاريع». وتابع الأسدي رحلاته العلمية، فزار عام 1956 يوغوسلافيا وهنغاريا وبلغاريا والنمسا، ثم قام برحلة أخرى إلى شمال افريقيا فزار ليبيا والمغرب واسبانيا. وفي الرابع والعشرين من شهر نوفمبر من عام 1967، عقد الأسدي ندوة عن لهجة حلب، كانت القاعة تمتلئ بالرواد، يسألونه عن كلمات حلبية، فيجيبهم عنها من معجمه الكبير، كما كان يذيع كل ما جمعه من إذاعة حلب.
بقي أكثر وفاء من مدينته
بدأ الوهن يدبّ في جسد الأسدي حتى اضطر إلى دخول المستشفى، ثم خرج منه إلى دار أخته فمكث عندها عشرة أيام، ثم ترك الدار إلى عزلته الجديدة، ثم عاوده المرض فأدخل المستشفى الوطني، لكنه سرعان ما تركه لأنه لم يجد العناية الكافية، وعاد إلى مستشفى الكلمة، ولم تطـــل إقامتــه فيه، فتركه لأنه لم يجد من يدفع نفقات العلاج والمبيت عنه. وفي آخر أيامه ساءت حاله وتفاقم عليه مرض السكري ومرض الخثرة، وأصبح لونه شاحباً أصفر، فبات يجرّ أقدامـــه على الرصيـــف جرّاً، فأرسل إلى دارة المبرة (دارة العجزة)، فأعطـــي غرفة فيها، وخلال إقامته كان يتابع العمـــل في موسوعتـــه الكـــبرى عن حلب، وظل يناضل ضد الموت ويبعـــده عنه كي ينهـــــي عملــــــه الموسوعــــي، وقد قال مرة: «لن أمكّن عزرائيل مني، فكلما فرغت من عمل أدبي بدأت عملاً أدبياً آخر، وهكذا يجدني منشغلاً فينصرف عني». ومع ذلك فقد كان أكثر وفاء من المدينة التي قال عنها: «أحببتها وعقّتني وخلدتها ونفتني». ولمّا أحس بالموت يترصده أوصى أن يقام له ضريح يكتب عليه عبارة واحدة هي «خير الدين الأسدي».