أنجز الباحث الفلسطيني د. زياد منى ستة كتب في علم التاريخ من بينها وأكثرها إثارة للجدل (جغرافيا التوراة، مصر وبنو إسرائيل في عسير) ، الذي يتناول جغرافية التوراة انطلاقا من أطروحة باحث آخر هو كمال الصليبي، وهي أطروحة إن ثبتت صحتها، فإنها ستقلب تاريخ المنطقة رأسا على عقب، وذلك ما يوحي به عنوان الكتاب نفسه.

 

يرى زياد منى أن منطقة جزيرة العرب قد أهملت كثيرا من ناحية البحث التاريخي، مؤكدا على أن المظهر البحثي الذي يشار إليه بالبنان في هذا الميدان شهدته مملكة البحرين أو منطقة ( الدلمون) قديما، وذلك من خلال رصد ودراسة عدد من النقوش القديمة، بينما يعتقد ان منطقة الخليج وشرقي جزيرة العرب كانت منطقة مهمة للغاية لقربها من ثلاث حضارات من العيار الثقيل، الحضارة البابلية والآشورية الجديدة والحضارة الفارسية، فضلا عن الحضارات التي نشأت في بلاد الشام عموما، حيث يؤكد الباحث أنه كان هناك طرق اتصال مباشرة من عدن إلى صحراء الربع الخالي وعبرها إلى شرق جزيرة العرب.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن الآثار القديمة عادة ما تحتضنها التلال لما كانت توفره هذه للناس من عناصر الأمن والسلامة والحماية من الغزوات، حيث يوجد في سوريا، على سبيل المثال، نحو خمسة آلاف تلة جميعها تغص بالكنوز الأثرية وتحتاج عملية التنقيب عنها جميعا إلى نحو 700 سنة، وفق تقديرات منى، وإذا أخذنا في الاعتبار أن التلال السورية تلك جميعها مكشوف وباد للعيان، فإن مسألة البحث والتنقيب في الإمارات ومنطقة الخليج تبدو أكثر تعقيدا كون معظم تلالها القديمة مدفونة تحت الكثبان الرملية بحكم جغرافيتها ومناخها.

حول مسيرته في ميدان البحث التاريخي، قد يكون من المستغرب بعض الشيء أن يسلك شخصا درس إدارة الأعمال في بريطانيا أولا ومن ثم الفلسفة في ألمانيا ونال درجة الدكتوراة فيها هذا الطريق، لكن الصدفة ربما مع تضافر عوامل أخرى تتعلق بجغرافية المنطقة التي ولد فيها قادته إلى متاهة التاريخ بعد أن أهداه أحد الأصدقاء كتاب( التوراة في الجزيرة العربية) للباحث كمال الصليبي، ما دفعه إلى التفكير في كتابة بحث آخر حول علاقة العرب بالفرس، فاتصل بأهم مؤرخ لمسيرة هذه العلاقات.

وهو عرفان شاهين ، الذي كان أستاذا في جامعة جورج تاون وألف خمسة مجلدات في هذا الميدان والذي قال له إن كل شيء يمكن أن تكتبه أو تبحث فيه موجود في مؤلفات الطبري، لكن مسار البحث تغير بعد أن وقع بين يدي الدكتور زياد كتاب آخر لكمال الصليبي يتحدث عن اللغات القديمة مثل العبرية والآرامية والعربية وكذلك عن التوراة وجغرافيا منطقة فلسطين والجزيرة العربية، وراح يتلمس بعض الاستنتاجات التي تفيد بأن التوراة جاء من جزيرة العرب، ولقد تطلب ذلك تعلم بعض تلك اللغات القديمة مثل العبرية والآرامية.

فيما يتعلق باهتمامه بالملكة بلقيس ثمة حكاية تروى يقول فيها الباحث:( طلبت مني إحدى المجلات في برلين أن يكتب مقالة فيها،فبحثت في موضوعات تهم القارئ العربي، كليوبترا وزنوبيا وبلقيس، فاكتشفت أن الكتب حول كليوبترا كثيرة،وكذلك حول زنوبيا، لكن عن بلقيس لم أجد شيئا، فدأبت أبحث، فاكتشفت أن هذا الموضوع موضوع كتاب وليس موضوع مقالة تنشر في مجلة فقط، فاختصرت الموضوع إلى مقالة أرسلتها إلى المجلة وواصلت عملي على الكتاب).

وكان لا بد أن يتطرق الحوار مع الباحث الفلسطيني إلى عمل باحث آخر في الميدان عينه هو جواد علي، الذي أكد منى أنه قام بعمل موسوعي مهم حيث جمع في 11 مجلدا معظم ما كتبه العلماء الأوروبيون عن العرب، لكنه أكد كذلك أن طبيعة عمليهما لا يلتقيان.

حيث يقوم عمل منى على منهج التحليل اللغوي والبحث في معاني الكلمات وليس على الأسطورة، فيذكر على سبيل المثال في كتاب(التوراة في جزيرة العرب) إن كلمة حصر كانت تكتب في العربية القديمة بلا تنقيط وبالتالي فإنه للقارئ أن يتخيل عدد الطرق التي يمكن من خلالها قراءة هذه الكلمة.

حيث لا يبقى من خيار آخر غير قراءة الكلمة اعتمادا على سياقها في الجملة التي وردت فيها، علما بأن هذه المنهجية هي منهجية علمية ومعمول فيها بما يسمى مدرسة علم التوراة القائمة منذ أكثر من 150 سنة والتي تعلم الباحث الفلسطيني فيها، مع ملاحظة أنه يعتمد في قراءته للنصوص على قراءة النصوص الأصلية بالعبرية والآرامية وغيرها من اللغات القديمة.

لكن قد يقول قائل إنه إذا كان التاريخ تكتبه القوى الكبرى المسيطرة، فما فائدة المناهج والبحوث العلمية، عدا عن أن الكتابات التاريخية غالبا ما تعد لخدمة أغراض سياسية مثلما هي حالة تاريخ فلسطين، فعلى الرغم من الحقائق التاريخية الممتدة حتى تاريخنا المعاصر .

والتي تقول بوضوح أن الأرض الفلسطينية لسكانها الفلسطيين منذ آلاف السنين، إلا أن الرواية التاريخية للمنطقة تروى بطرق شتى وفقا لمتطلبات الصراع العربي الصهيوني وموازين القوى المتحكمة فيه، فلكل من طرفي الصراع روايته الخاصة ولكل من الطرفين حججه، بغض النظر عن مصداقية الرواية الفلسطينية وبطلان الرواية الصهيونية، التي أتت لتخدم المشروع الصهيوني الاستعماري.

وهنا يؤكد منى أنه لا حاجة لأي اثباتات لتأكيد حق الفلسطينيين بأرضهم فلسطين، وإنه عندما يتعلق النقاش بتاريخية هذه المنطقة من العالم، فإن موقع الدولة العبرية يكون بالضرورة خارج هذا النقاش إنطلاقا من أن هذه المجموعة من الصهانية أتت إلى فلسطين واغتصبت الأرض وهجرت الشعب الذي سيخرجهم منها في يوم من الأيام ويعيد لتاريخ المنطقة وجهه الحقيقي.

لا سيما وأن الصهاينة أنفسهم يدركون تماما أن لا جذور لهم في فلسطين، وهم يعلمون تماما ايضا أن روايتهم تقوم على محاولتهم إقامة علاقة تاريخية لهم بالأرض رغم عدم قناعتهم بذلك، هنا الأمر يتعلق برواية سياسية وليس رواية تاريخية، حيث يقول منى:

(هم أناس تهودوا وجاؤوا إلى فلسطين كغزاة ولا علاقة لهم بها حتى لو جاؤوا باثباتات تقول إن اليهود عاشوا فيها منذ آلاف السنين، ففي هذه الحالة يصبح من حق العرب المطالبة باسترداد الأندلس ومن حق الهنود الحمر المطالبة بأميركا الشمالية والجنوبية، فهم لم يأتوا بناء على حقائق تاريخية، إنما اعتمادا على قوة السلاح، وطردونا من بلادنا وأخذوها عنوة واقاموا عليها مستعمرة ليحكموا المنطقة كلها).

لكن ما مدى صحة القول إن هذا الموقف السياسي الواضح بانحيازه للقضية الفلسطينية الذي يبديه منى يجانب المنهج العلمي الذي يتعين على كل باحث اتباعه والمنادي بالحيادية؟ هنا يقول الباحث إن هذا الطرح ليس طرحه وحده ولا هو ابتكره، بل إنه طرح الباحث كمال الصليبي، رغم أنه من المسيحين البروتستانتيين الأصوليين المتمسكين بعقيدتهم.

لكن ذلك لم يحل دون توصله إلى الحقيقية التاريخية المدرجة ضمن أطروحة منى والقائلة بأن أرض التوراة كانت في عسير وليس في فلسطين وأن أصل بني إسرائيل ليس اليهود، فهؤلاء شيء وبنو إسرائيل شيء آخر.

هذا لا يحول دون حيادية الباحث، الذي يقول: أنا حيادي اتجاه الحقائق العلمية، فأنا لا أسمح لنفسي بألا أعتمد نتائج بحوث علمية لأن كاتبها شخص يهودي، ومراجعي تغص بالكتاب الإسرائيليين لأنهم يتكلمون بلغة علمية وتوصلوا إلى نتائج علمية، لكن من الناحية العاطفية، فعليهم أن يثبتوا في كتاباتي أنني انحرفت عن طريق العلم وانغمست بالعواطف). لكن أرض الحقائق العلمية.

كما هو معروف، ليست مفروشة بالورود كما يقال، فالمعايير العلمية نفسها ربما تكون محل خلاف في بعض الأحيان، وهذا ما يؤكده منى، حيث يقول إن هذه هي المشكلة الحالية التي تواجه الباحثين والتي تقوم على عدم امكانية عثورهم على آثار تغير مفهومنا لما حصل.

لكن ما يكتب يعتمد على ميل الكاتب لهذا النص أكثر منه لذاك النص أو ميله إلى هذا التفسير أكثر من ميله إلى ذلك التفسير، مع ذلك لا يغير في واقع الأمر شيئا، فالتغيير الوحيد الذي حصل في تاريخ المنطقة يكمن في أطروحة الصليبي نفسه حين قال إن هذه الجغرافيا هنا وليست هناك وإن كتبا مثل التوراة والانجيل هي كتب تحوي الأسطورة والقصص والحكايات والنكات والحكم وعقيدة دينية وغير ذلك.

بيد أن الواقع يشي في جميع الأحوال أن الضغط الصهيوني أثر بهذا الشكل او ذاك على المعطى التاريخي وتمكن من تشويهه وحرفه باتجاه الرواية الصهيونية ذاتها، فأي عالم توراة، وفقا لما ذهب إليه منى، يتعين عليه زيارة المناطق الأثرية في فلسطين المحتلة، وإذا كتب شيئا ضد الرواية الصهيونية.

فإنهم لا يسمحوا له بنشره، فهم ينشرون باتجاه واحد فقط، لا بل إنهم يحاصرونه ويمنعونه من استكمال عمله وهناك من تعرضوا للطرد من الباحثين، فضلا عن أنهم يحجزون معلومات ولا لأحد رؤيتها، وآخر فضيحة ظهرت في هذا الميدان كانت فضيحة بيت داود الذي قالوا إنهم عثروا عليه في تل القاضي في الجولان، وكذلك فضيحة معبد سليمان، حيث يدعون أنهم يعثرون على نقوش تثبت روايتهم حول هذه الأمكنة لكن سرعان ما يتبين زيف تلك الادعاءات.

ولذلك لم يظهر أي اكتشاف أثري في فلسطين منذ صدور كتاب كمال الصليبي، وكذلك كتاب ( تاريخ بني إسرائيل القديم)لتوماس تومسون، الذي طردوه من الجامعة والعديد من الأمثلة الأخرى، ولذلك يطلق على علم التوراة لقب ( عش الأفاعي)، لأن أي حركة خطأ تقتل صاحبها.