انشغل الفنانون التشكيليون اليونانيون، ولزمن طويل، في البحث عن النسبة المثاليّة لعلاقة الرأس بالجسم. وبعد تجارب عديدة، استخدموا فيها علم الرياضيات، انتهوا إلى نتيجة تقول ان النسبة هذه هي واحد إلى تسعة. نتيجة مشابهة، توصل إليها الفنان الإفريقي البدائي، لكن ليس اعتماداً على علم الرياضيات الذي لا يلم فيه ولا يعرفه، وإنما بوساطة حسه النقي الصادق وغير المشوش.
ظلت الثقافة الأوروبيّة بشكل عام، والفنون التشكيليّة منها بشكل خاص، أسيرة الثقافة اليونانيّة ـ الرومانيّة حتى ما بعد عصر النهضة، إذ شكّلت هذه الثقافة، المصادر الأساسيّة للثقافة الأوروبيّة، إلى أن جاء نخبة من المثقفين الأوروبيين الذين خرجوا عن المألوف والسائد، وكانت في طليعتهم أسماء بارزة في الفن التشكيلي أمثال: ماتيس، سيزان، غوغان، بول كلي، كاندينسكي، بيكاسو، هنري مور..
وغيرهم، حيث قام هؤلاء، برفع رؤوسهم من الأرشيف اليوناني الروماني، وتمزيق أوروبيتهم الضيقة، منفتحين على ثقافات الشعوب الأخرى، لاسيما القريبة المشاطئة لدولهم التي (كانت تنظر إليها نظرة دونيّة)، ليجدوا فيها ما يدهش من القيم الإنسانيّة والفنيّة، وبهذه الالتفاتة ومعها، كان المنعطف الكبير لولادة الحداثة بكل أطيافها، أعقبتها المعاصرة باتجاهاتها وأساليبها المختلفة، والتي لا تزال تداعياتها مستمرة، حتى اليوم، بتأثير من التطورات التكنولوجيّة المتلاحقة.
فنون في دائرة الضوء
وهكذا، بدأت رحلة تنقيب الأوروبيين، في حضارات الشعوب الأخرى وتراثها الشعبي الثر والغني الذي لا يقل أهميةً وقيمةً عن التراث اليوناني الروماني، وبدأت رحلة البحث عما يمكن أن يبنوا عليه، من هذا التراث الضارب في عمق التاريخ، فنونهم الحديثة التي سرعان ما أزهرت وأينعت، حراكاً مدهشاً، غذى ويغذي حتى اليوم، ثقافتهم بأجناسها وأطيافها كافة.
مرحلة التحول
خلال مرحلة التحول هذه، برز (الفن الساذج art naif) وهو تعبير يستخدم للدلالة على ما ينتجه ناس لم يتلقوا تدريباً أو تعليماً أكاديمياً على ما ينتجونه من رسوم ولوحات ومنحوتات وتصاميم معماريّة، وإنما هم أناس عاديون وهواة، يعملون في اختصاصات عديدة كالطب، والهندسة، وتدبير شؤون المنزل والأسرة، وبعض المهن والحرف الأخرى، وينتجون في الوقت نفسه، أعمالاً فنيّة، تتماهى فيها أطياف فنون فطريّة وغريزيّة وبدائيّة كثيرة.
فن الريف
والحقيقة يمكن أن يكون فن الريف هو الفن الساذج الأول الحقيقي، لا سيما وأنه يعتمد على مخيلة مبتكرة لحرفيين مهرة، ولكن تطور المجتمعات بعد الثورة الصناعيّة، والإنتاج بالجملة، تسببا في ذبول تلك المخيلة، وفي تحول الأشكال الفنيّة إلى أشكال متكلفة لا حياة فيها.
عودة الروح
بعد مرحلة طويلة من الإهمال للفن الساذج، جاءت الإبداعيّة الرومانسيّة وروادها، ليعيدوا إليه قيمته ومكانته، وذلك قبل أن يغدو موضوعاً رئيساً لأبحاث علماء الثقافات الدارسة التي عُرفت باصطلاح (الفلكلور) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ثم صار الفن الساذج وثيق الصلة بالتوسع المدني، فهو مع شدة اختلافه عن فن الريف، يضفي على الطبيعة المفقودة قيمة زائدة، وقد تجلى ذلك في الأعمال الرعويّة، ومن خلال نظرة تحن إلى الماضي، وبدافع من العودة إلى المناهل الدينيّة والأسطوريّة والخرافيّة، أو إلى الحلم، وأحياناً إلى ما بعد السورياليّة، وكل ذلك، للتحلل من واقع تُطبق فيه المادة على روح الإنسان وأحاسيسه.
نماذج
من جانب آخر، لم يكن للفن الساذج أية مطامح أو أهداف ثوريّة، أو مناهضة للواقع، وإنما هو فن أعاد النظر في النماذج الملائمة لواقع الإنسان المعاصر، مع ملاحظة وجود شيء من الركاكة فيه، تأتي من اعتماده على الصدفة، والرسم المفرط الدقة، والألوان الحادة، والموضوعات السرديّة التي عالجها، وهي في الغالب هي ذات مغزى بسيط في ظاهره.
مكتشف الفن الساذج
يعتبر جامع اللوحات الألماني ويلهام أوهد أول من اكتشف الفنانين السذج، حيث أعجب بهم كثيراً، وأطلق عليهم اسم (مصوري القلب المقدس) لأنهم كانوا يمارسون الفن أيام الآحاد فقط، لانشغالهم بمهام ووظائف أخرى بقية أيام الأسبوع، وأحياناً كانوا يمارسونه في أوقات الفراغ القليلة لديهم.
بسطاء
كان من بينهم الخادمة مثل (سيرافين لوي) وعامل المشاتل الزراعيّة (بوشان) وموظف البريد (فيفان) و(رامبر) وعامل المطبعة (بيرونة) و(بومبوا) والمزارع، ومصارع السيرك، وعامل الحفريات، وغيرهم الكثير. كما ينسب بعضهم الفنان الفرنسي المعروف (هنري روسو) إلى هؤلاء الفنانين السذج.
رحلة الفن
كانت بداية رحلة الفن الساذج من باريس، ومنها انتقل ليشمل بلدان العالم كافة، بما في ذلك بلادنا العربيّة. وقد لوحظ أن غالبية الذين كانوا يزاولون هذا الفن هم من الناس العاديين، بعضهم كان يعمل في حرفة كتابة اللافتات، ورسوم الجدران، والبراكات المتجولة، والرسم على زجاج السيارات وعلب الكرتون، وحتى بعض الذين كانوا ينتجون الرسوم الشعبيّة، كالرسام الدمشقي (أبو صبحي التيناوي) هم من الفنانين السذج الذين اتجهوا إلى ممارسة هذا الفن المتماهي بالحرفة، بالوراثة، أو بالفطرة، وكانوا مخلصين له، وصادقين في انتخاب موضوعاته وطريقة معالجتهم لها.
واقعيّة خاصة
تنتمي رسوم الفنانين السذج إلى المدرسة الواقعيّة، وهي واقعيّة خاصة، مارسوها دون دراسة أكاديميّة، وتحمل الكثير من المبالغات الطريفة التي تصل أحياناً إلى حد اللا معقول. وبعضها يأخذ سمة الواقعيّة التسجيليّة لكثرة إلحاحها على التفاصيل كما لدى (فيفان) في لوحة كنيسة (نوتردام)، حيث يُخيل للمشاهد أن هذا الفنان قام بإحصاء عدد الحجارة في هذه الكنيسة قبل أن يرسمها. و(بيرونيه) في لوحاته البحريّة، إذ يبدو وكأنه قام بإحصاء لعدد الأمواج قبل أن يرسمها في هذه اللوحات.
موضوعات متنوعة
لكل فنان ساذج موضوعاته التي يختارها بنفسه، نتيجة حبه لها، وإيمانه بما تمثله وترمز إليه من قيم، ورسمه لها كان بمثابة التعبير عن هذا الحب. من ذلك موضوع (عنترة وعبلة) لدى الفنان السوري الشعبي أبو صبحي التيناوي الذي كان يرى في (عنترة) أباً للفوارس جميعاً بلا منازع، وفي (عبلة) ست الحسن والجمال، في كل الأزمنة والعصور.
فن فطري
يلتقي الفن الساذج مع الفن الشعبي والفطري والبدائي، وحتى أنه يتقاطع في جوانب كثيرة مع فنون الأطفال، لناحية مبالغاته، وتحويراته، وتلقائيته، وعفويته، ويختلف عنها في الوقت نفسه، في أن غالبية من يمارسه هم من المتعلمين والمثقفين العاملين في مهن أخرى، بينما الفنون الشعبيّة هي فن الفلاحين والمجتمعات الزراعيّة الذي يعتبر من مرحلة التاريخ المعلوم الذي بدأ بعد انقضاء عصر التوحش، والفن الفطري قريب جداً من فن الشعب. أما الفن البدائي فله مدلول تاريخي ويربط بالحضارات الإنسانيّة الأولى، وقد سبق وجوده وجود الكتابة. أي جاء في مرحلة الأميّة الإنسانيّة.
حراك لافت
شهد الفن الساذج حراكاً لافتاً بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث أقيمت له معارض عدة، في مختلف المدن الأوروبيّة، وتوجد له اليوم العديد من المتاحف المتخصصة، لعل أهمها وأبرزها (متحف لافال) في فرنسا، حيث ولد الفنان الجمركي الساذج (روسو). وفي مدينة (نيس) بفرنسا أيضاً، يوجد متحف متخصص بهذا الفن، وقد سبق للعديد من العواصم وأقامت للفنان الشعبي السوري الساذج (أبو صبحي التيناوي) معارض لم يسمع بها ولا رآها.
الفن الساذج
فن ينتجه أناس لم يتلقوا تدريباً أو تعليماً أكاديمياً في مجال الفن، وإنما هم أناس عاديون هواة، يعملون في اختصاصات أخرى.
تداخل وخصوصيّة
يلتقي الفن الساذج مع الفن الشعبي والفطري والبدائي، ويتقاطع مع فنون الأطفال ويختلف عنها في الوقت نفسه.
المنعطف الكبير
ولدت التيارات الحديثة في الفن عندما أخرج الفنان الأوروبي رأسه من أرشيف الفن اليوناني الروماني، وتطلع إلى فنون الشعوب الأخرى.