لا أحد يعرف متى هندس سعد يكن نفسه، على هذا الشكل.. إنه فنان، لوحة، فضاء مكاني ودخان دائم، كأنه جزء من ألوان أعماله، دخان يرافقه أينما كان، بين وجوهه، أو على كرسيه في قهوة، أو حتى داخل جدرانه حيث البشرية الحالمة.

 تباينت أشكال الإبداع الحياتي في محطات ومراحل عيش سعد يكن، فكان بهذا معروفا لدى شريحة واسعة من جمهور الفن التشكيلي، ومن المثقفين عامة. وكنت قد عرفته شخصياً، منذ منتصف السبعينيات في القرن الفائت، كأحد أبرز المبدعين المهمومين برؤى التخليق والتجديد والابتكار المنفلت من جمود القيود.

وتحددت أولى محطات معرفتي بيكن، عندما ولجت باب مقهى القصر للمرة الأولى، في تلك الآونة، بحذر ورهبة، إذ كان جزءاً من المقهى.. بل جـــزءاً من كراسيه، إذ استمر حينها، يرتّب بذهنه هؤلاء البشر، ليصوغهم في رؤى إبداع اللوحة وقوالبهــــا، فيجلسهم على الكراسي، ثم ينهضهم، ومن ثم يرتّبهـــم مرّة ثانية. وهم صامتون.. وعندما لا تعجبه أشكالهم يعريهم من ثيابهم، أو يجعلهـــم يخلعون أحذيتهــــم ويرتدون عواطفهم، فيأخذهم معه بعيداً، ليعيد تكوينهم كما يريد، ويشعل التبغ في غليونه، ويمضي مع حفيف الليل.

 شهادة

عرف الروائي، وليد إخلاصي، سعد يكن، قبل معرفتي أنا به، إذ كان قد لفت انتباهه شاب لم يتجاوز العشرين من العمر، يتردّد على مسرح الشعب، مصطحباً أوراقاً عديدة وقلماً، ينزوي في ركن ويبدأ الرسم، يقول إخلاصي: .. وفي إحدى المرّات اقتربت منه في فترة الاستراحة، عرّف على نفسه بأنه سعد يكن، وهو يهوى الرسم، إنه يدرّب نفسه على رسم الشخصيات، وهذا المكان (المسرح) هو من أفضل الأماكن لمتابعة حركة الأشخاص وتثبيت اللحظة التي يراها من داخل النور والظل والعتمة.

 .. عوالم الموهبة

بدأ سعد يكن الرسم سنة 1964، ولم يتجاوز حينها، الرابعة عشرة من عمره. وكان قد تخرج، حينها، من مركز الفنون التشكيلية في حلب. وكان يرسم بخط قوي وقاس غير خاضع للمنظــــور أو التشريــــح، خط خاص به. ومن ثــــم انتسب يكن إلى كلية الفنون الجميلة، وحصل على الترتيب الأول، كما يقول، في المسابقة التي تجريها الكليــة، ولكنه لم يتابع دراسته، وربمّا هي الأوضاع المادية السبب، أو لأنـــّه وجدهــــا لا تعلمــــه شيئاً .

استدار سعـــد إلى داخله، والتمــــس فيه المأســــاة والفاجعــــة، وأقام معرضين بالأســـود والأبيض، بين عامي 1970 ــ 1971.

ثم تابع تحصيله العلمي، وكـــان لا بدّ له من التعرف على حياة الفنانين ودارســـة سيرتهم الذاتيـــة، والتعرّف على الكتّاب والشعـــراء الذين يلامســـون موقفه الذاتي مـــن الأشيــــاء والعالم . وتطّور مفهـــوم القراءة لديه، فأصبح مرتبطاً بالموقف من الإنسان، وتعمــــّق في دراسة ابن عربــي والحلاج والسهروردي، وحـــوّل إشراقاتهــــم إلى أعمـــال تشكيلية، تمثّل أفكارهـــم وتلخــــص حيواتهــــم في عدّة لوحات.

 معطى ثقافي لوني

يقول سعد يكن، عن توصيف مضامين إبداعه، وطبيعة رؤاه: عندما قدمت معرضاً عن جلجامش، عدت إلى قراءة الأساطير، ثم أعدت توظيف الملحمة بإحساسي الداخلي لأقدمها ضمن معطياتها الثقافية والفكرية، برؤيا ذاتية، وعندما رسمت البحر والصيادين وشباكهم، كنت أتلمس رواية (الشيخ والبحر) لهمنغواي .

ولي تجربة بالتعرف على عدة شعراء من خلال نتاجهم الشعري، وقدمتهم في لوحات عكست حالات شعرية، كنزيه أبو عفش وعلي الجندي. وشخصيات روائية، كوليد إخلاصي وعبد السلام العجيلي.

هكذا، ومع هذه البدايات راح الفنان ينتقل من المرحلة البسيطة في الشكل والإمكانات، إلى المرحلة المعقّدة من حيث الدوافع والرغبات، لخوض تجربة متميّزة عن الآخرين.

 في قلب الصراع

لم يرد سعد يكن أن يبقى خارج حلقة النزاع الفكري. فاستقر بهذا، في عمق دواخل معركة الصراع وإثبات الوجود، وبذا شارك بزخم كبير، في شتـــى المعارض والندوات، وتعرّض للنقد والهجوم. لكنه ظل مستمراً وثابتاً ومتابعاً رسالته الفنية.

وفي لوحاته سنجد قــــرّاء الصحف بينمــــا أداروا ظهورهم إلى الطاولــة وهـــم يقــــرؤون. وكلك نرى السياسيين يتحدثون معــــاً بلغــــة واحـــدة، ولا يجـــدون لغة بينهم، سوى الصراخ وإلغاء الآخر، وكذا المغنـــي في وسط الحلبــة يغني لنفسه والجوقة في وادٍ آخر.. ونجد أن العشاق متنـــافـــرون والأصدقـــــاء يكيدون لبعضهم، وكل يغني على ليلاه ..

عشاق فاشلون، أزواج تعســـاء، رجال محرمــــون مــــن العاطفة الزوجيـــة، فيبغونهـــا عند بائعات الهوى.. وهكذا تمضي السهرة إلى آخرها، فيحمل المتعبون أثقالهم ونعاسهم، ويبقى سعد وحيداً مع الكراسي وما بقي من سهرة البارحة، ليملأ اللوحة في اليوم التالي، بهم.

 «تحوير جسدي»

أيُّ شيء هذا الـــذي يحيط بالفنــان وهو يأخـــذ ذاكرتــــه معــــه، ذلك الذي يتجسد في أشباه البشر الذين دخلوا المدينة وصاروا من نسيجها:

بائع الخيطان وهـــو يلفّ نفـــسه بوحدته وخيطانه، بائع الصحف الذي يسحب رجليه على تعبه وشقاء يومه، العروس التي تحلم بقلب كبير أحمر، العريس الذي يحلم الحلم ذاته. ومع ليلة الزفاف تتكسّر الأحلام وتجهض الأمنيات، وكأنما كل شيء إلى هباء. وحتى عندما عاد إلى التاريخ والأسطورة والأيقونة، فإنه أكسبها معاصرة وحداثة، فإذا بها تحمل مشكلات الإنسان المعاصر.

وربما تكون لوحة صبري مدلّل، شيخ الطرب في حلب، من أعقد اللوحات وأكثرها حداثة، وذلك ربمّا لأن سعداً رأى فيه حلب المدينة العريقة بأصالتها، فخلّدها فيه وخلّده فيها. إنه يلجأ في أعماله إلى تحوير الأشخاص، وهذا يكون للتأكيد على دراما انفعالية معينة، وحين يتناول المرأة في عمل ما، فالأقرب أن تكون:

مستلبة وخانعة ومستكينة، تحت ظل رجل يشكل الواجهة الأولى .. إن الكلام النظري عن دور المرأة في المجتمع شيء، وتلّمس واقعها ومعاناتها شيء آخر، إنّه يقدمها في لوحات خاصة تعكس أزمتها، متراوحة بين الوحدة والعزلة، وبين انسجامها مع الرجل في لحظات متبادلة، تكون المرأة في وادٍ والرجل في آخر.. إنهما يجتمعان في المكان، ولكنهما منفصلان نفسياً بشكل نهائي.

وفي أعماله عن الطوفان نجد الطبيعة في حالة امتزاج الماء مع التراب. وهما يرمزان إلى بداية الخلق ونهايته، والمرأة كذلك.

 مدرسة إبداعية وتجليات

يقول سعد يكن: إنّ الشخوص في كل أعمالي لا تنتعل أحذية، لأنني في عملية التحوير الجسدية، أستخدم الوجوه والأطراف كوسائل تعبير رئيسة عن الحدث الدرامي في اللوحة، الأطراف تعبّر عن الحركة والوجوه تعبّر عن البعد النفسي للدراما الإنسانية، هناك فرق كبير بين تحوير الشكل وتشويهه، فالتحوير يأخذ معنى إيجابياً، بينما كلمة التشويه تأخذ معنى سلبياً.

سعد يكن نسيج وحيد يطير خارج السرب، ليشكّل مدرسة فنية متكاملة، وبحسه الجمالي راح يعيد صياغة الإنسان، كما يحب أن نراه، إنه يسكن فوق الجدار، يراقبنا في حركتنا اليومية، يقدمنا في صور متلاحقة، كما الحقيقة في تجليها الأسمى والأعمق.

 بطاقة

ولد الفنان التشكيلي السوري، سعد يكن في مدينة حلب، عام 1952م. ودرس الفن في مركز الفنون التشكيلية. ثم انتسب الى كلية الفنون الجميلة في عام 1970م. وهو محكم في البينالي العالمي في بلغاريا عام 1985م. شغل عدة مهام. وقدم العديد من البرامج الإعلامية المتخصصة في مجال الفنون. كذلك أسس صالة النقطة للآداب والفنون بحلب. كما أن أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية. ولديه مجموعة من المعارض الفنية، الفردية والجماعية. وقدم إسهامات فكرية فنية متنوعة.

 داخل النور والعتمة

 عرف الروائي، وليد إخلاصي، سعد يكن، مبكرا، إذ كان قد لفت انتباهه شاب لم يتجاوز العشرين من العمر، يتردّد على مسرح الشعب، مصطحباً أوراقاً عديدة وقلماً، ينزوي في ركن ويبدأ الرسم. ويقول إخلاصي:

.. في إحدى المرّات اقتربت منه.. إنه يدرّب نفسه على رسم الشخصيات.. (المسرح) هو من أفضل الأماكن لمتابعة حركة الأشخاص وتثبيت اللحظة التي يراها من داخل النور والظل والعتمة.