«المفاهيميّة» أو «المفهوميّة»، مصطلح فني تشكيلي جديد، يتم تداوله هذه الأيام بكثرة لافتة، في البيناليات والتظاهرات والمعارض الفنيّة العالميّة، لا سيما في الحيوات التشكيليّة العربيّة في كل من مصر ودول الخليج العربي، حيث بدأت تتواتر بكثافة لافتة، أعمال فنية تصنف نفسها ضمن هذا التوجه الفني الجديد. فما «المفاهيمية»؟ وما فرصتها الفعليّة في النجاح والاستمرار؟
دراسات وكتب عديدة، بدأت ترد تباعاً إلى المحترفات التشكيليّة العربيّة المعاصرة، تتناول بالتحليل الاتجاهات والتيارات التي أخذت تتفاعل ضمن المحترفات، تدعمها وتشجعها المؤسسات والإرساليات الثقافيّة الغربيّة لأهداف ليست ثقافيّة ولا فنيّة ولا نبيلة!!
كتاب تخصصي
من الكتيبات الصادرة، أخيرا، حول ظاهرة «المفاهيميّة»، البحث الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، للباحث المغربي ابراهيم الحجري، المعنون :«المفهوميّة في الفن التشكيلي العربي.. تجارب ورؤى». وفيه يتقصى الحجري عن الفن كمشكلة فلسفيّة إنسانية، مؤكداً أن الفن لم يكن أبداً عنصر ترف في التجربة الانسانيّة على مر العصور.
ولا شيئاً على هامشها، إنما جاء ليملأ هوة سحيقة في كينونة الانسان، نفسياً واجتماعياً وثقافياً. وتوقف بعدها عند التجريبيّة ومسوغاتها في التشكيل العربي، إذ واكبت التجربة الفنية لحظات التحول الكبرى للإنسان، وهذا التحول تسهم فيه عوامل ذاتية تتعلق بحساسية الفنان الشديدة تجاه الأشياء والعالم، وعوامل موضوعيّة، حيث لا تنبثق الظواهر الفنيّة من فراغ، بل لابد لها من مناخ حاضن يهيئ مخاضها ويدفعه إلى الكمون من أجل إخراج العمل الفني إلى الوجود.
بناءً على هذه المسوغات، تنوعت التجارب وتعددت المدارس الفنيّة، وظهرت تيارات تواكب تطلعات الذائقة الفنيّة للأجيال المتعاقبة، من هذه الاتجاهات: الرومانسيّة والسورياليّة والتأمليّة، وصولاً إلى التجريبيّة، فالمفاهيميّة التي ظهرت للمرة الأولى، في أميركا وأوروبا، نهاية خمسينيات القرن الماضي.
وذلك نتيجة ملل المبدع من الإطار التقليدي للعمل الفني، وتحول مفهوم الجمال الفني من الشكل المورفولوجي إلى التعبير عن الفكرة من حيث كونها تنطوي على الفعل الفني وتطرحه بشكل أكثر أهمية من الموضوع، ولمسايرة التطور النوعي للتكنولوجيا الذي طال جميع جوانب الحياة ومنها الفن.
أساس
تعود جذور الفن المفاهيمي إلى الحركة الدادائية الجديدة، سواء في أوروبا أوأميركا، مطالع القرن العشرين، ثم تأجج هذا الفن في الستينيات من القرن الفائت، وذاع صيته وانتشر ليصبح حركة عالميّة راسخة.
ويرى الباحث صالح بن حسين أن المفاهيميّة خروج للمشهد الفني عن التقليديّة والريثمات, وهي مدرسة مستقلة في حد ذاتها، ولا يمكن الحديث عن المفاهيميّة من دون الإشارة إلى جيري أو لسمان وميشاجوردان، إذ يقول الأخير متسائلاً: «هل أوجه عدسات كاميراتي إلى الخارج، إلى العالم الحقيقي، أم أوجهها إلى داخلي حيث تقبع روحي؟!
هل ألتقط صور ألمي الحقيقي.. أم أنني أصنع من عوالمي الخاصة عوامل حقيقية، رغم عدم وجودها على أرض الواقع؟!». ويُشير إلى الخلط الحاصل بين «المفهوميّة» و«الرقميّة» في الفن، إذ إن التلاعب، ومونتاج الصورة الضوئيّة، ليس بفكرة جديدة، كما يرى. وكل الصور تحدث لها درجة من التجهيز، ولكن القوة الحقيقية لفن التصوير تكمن في كونه يقدم الحقيقة المعدلة بوصفها واقعاً.
فكرة جديدة
من جانب آخر أدى قيام الفن المفاهيمي على مجرد الفكرة، ونهوضه على معنى يراود مخيلة الفنان، واستفادته الكبيرة من الثورة التكنولوجيّة الحديثة، إلى استحضار مسألة «براغماتيّة الفن» بالرغم من طابعه الخارجي. أما الأسس والمقومات التي ينهض عليها الفن المفاهيمي، فيمكن تلخيصها بعدة نقاط. منها:
إعطاء أهمية كبرى للفكرة أو المعنى، تهميش الأسلوب والشكل الجماليين، إزاحة هلامية دور الفنان الماهر أو الظاهرة، إشراك المتلقي في بناء المعنى وتأسيس النموذج الفني، الانفتاح على المحيط المجتمعي والواقع السوسيوثقافي للمجتمع الذي يعيش فيه الفنان، استغلال كل الرأسمال البشري المتحقق على المستوى البصري وتوظيف الوسائط الجديدة أو تكنولوجيا الصورة في إنجاز العمل الفني والاشتغال على المنظور الثقافي للفنان.
وجعله كائناً مواكباً لتطورات عصره، جعل الموهبة الفنيّة والممارسة الإبداعيّة في خدمة الأفكار البشريّة إبان لحظة معينة، الاشتغال على قضايا الإنسان وهمومه الفرديّة والجماعيّة، تمتين العلاقة بالسؤال الكوني المشترك على حساب العلاقة بالذات أو ما يدعى بالأنويّة المفرطة للفنان، تغيير مفهوم الفن من مجرد الموهبة أو التجربة إلى المعرفة والخبرة بالآليات والوسائط والبرامج الالكترونيّة ووسائل التصوير، القدرة على التقاط المشاهد والأفكار والتأسيس لتمظهراتها (ولو بأشكال هجينة).
اعتماد خامات ووسائط جديدة في الفن التشكيلي مثل الشاشة الحريريّة التي تسمح بتكرار الصورة من دون تدخل الفنان، الاشتغال على مواد وخامات جديدة في إنجار العمل الفني كالخشب والفورميكا والكروم والألوان العاكسة( وأيضا:
الطين والحصى والرمل والتبن وأغصان الشجر والخيش والحبال)، القيام بتشييد العمل الفني في الفراغ (تجميعه من وسائل وأشكال مختلفة بأبعاده الثلاثة، فيما يُعرف اليوم بتدوير النفايات متعددة المواد والخامات)، إنجاز أعمال فنيّة مسطحة(لوحات أو مجسمة، ومنحوتات وكتل فراغيّة).
خروج عن السائد
بناء على ما تقدم، يمكن القول، إن الفن المفاهيمي خرج عن المألوف والسائد، مستخدماً بعض الوسائط التقليديّة، إضافة إلى التقانات التي جاءت مع فنون ما بعد الحداثة، كالتلصيق (الكولاج)، والاشتغال على أعمال فنيّة مستقلة في الزمان والمكان، متحررة من السلطة المهاريّة والجماليّة التقليديّة، واعتماد فن الإرساء لإغناء تجاربه، إضافة إلى استخدام الصورة الضوئيّة، واللعب بها على الحاسوب (الفوتوشوب) وغير ذلك .
ويؤكد الباحث المغربي، ابراهيم الحجري، أن الفن التشكيلي العربي المعاصر، تأثر بالعديد من الاتجاهات الفنيّة الجديدة، بما فيها (المفاهيميّة)، سواء بشكل جزئي أو كلي، وذلك عبر قيام الفنان العربي بالاطلاع على ما يُستجد في الساحة العالميّة، والمشاركة في البيناليات، والاحتكاك عن قرب بإفرازات المفاهيميّة. كما ساهم في عملية التأثر هذه، ظهور الوسائط الالكترونيّة الجديدة وهجوم المد العولمي، ذلك عبر الشبكة العنكبوتيّة التي محت بآلياتها المتطورة جداً، كل الحدود الجغرافيّة بين البلدان، وقاربت بين الثقافات، وأصبحت إمكانات التواصل وتبادل التجارب أشد سهولة، ما جعل العالم قرية صغيرة.
أسماء وتجارب
ويُشير الباحث الحجري إلى بعض الأسماء التشكيليّة العربيّة التي خرجت عن قواعد الفن الأكاديمي ومعاييره المتقادمة منها: النحاتة الأردنية منى السعودي، الحروفي التونسي نجا المهداوي، السوري يوسف عبدلكي، المغربي عبد الكريم الأزهر.
وأما من بين الذين اشتغلوا على الفن المفاهيمي في الإمارات العربيّة المتحدة فهم كثر وفي ازدياد، فنذكر منهم: حسن شريف، محمد كاظم، عبدالله السعدي، ابتسام عبد العزيز.. وغيرهم.
ويشدد الحجري، على أن جملة من الانتقادات، وُجّهت إلى الفن المفاهيمي، بعضها طال جوهره الفلسفي، وسياقه التصوري، وبعضها الآخر، انصبّ على المفاهيم والأدوات التي اشتغل عليها الفنان المفاهيمي، وعلى الأغراض والأهداف التي تبنتها رسائله إلى المتلقي.
كما توجّس البعض، من موجة التغيرات المتسارعة التي تطول الحركة التشكيليّة العربيّة، والتي تخرق المعايير بشكل سافر، من دون أدنى اهتمام بذائقة الجمهور الفنيّة، هذا الجمهور الذي عزف عن هذا الفن لغياب عامل الموهبة الإبداعيّة الفرديّة عنه، ولغرابته وشذوذه اللذين يصلان حدّ الاستعراض العابث وغير المجدي.
ويعتقد الباحث الحجري بأنه مهما يكن من أمر هذا الفن وردود الأفعال المتباينة حوله، فإن التاريخ وحده سيحكم على مصداقيّة هذا الاتجاه أو ذاك، لأن الأعمال الكبرى وحدها تصمد متجاوزة عائق المسافة والزمن، في ما سرعان ما تتلاشى النزوات السطحية التي كانت وراء بروزها عوامل غير فنيّة، محكومة بالنزعات الذاتيّة والوصوليّة، في غياب أي نظرة شموليّة للعالم، وقراءة تأمليّة عميقة لواقع إنسان المرحلة.