مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الانجليزي دافيد ويليامز المختص بالتاريخ الفرنسي الحديث عموماً وبشخصية الفيلسوف كوندورسيه على وجه الخصوص. وهو هنا يقدم لمحة تاريخية واسعة ومفصلة عن حياة هذا المفكر الكبير وأعماله. ومعلوم أنه كان منخرطاً في الحياة العملية أو السياسية بقدر ما كان عالماً بالرياضيات وشتى اختصاصات الفكر والفلسفة.

وبالتالي فقد جمع المجد من طرفيه: مجد الفكر ومجد السياسة. ومنذ البداية يقول لنا المؤلف بما معناه: لقد ولد كوندورسيه في عائلة نبلاء فرنسيين عام 1743 ومات عام 1794 في ظل الثورة الفرنسية بعد أن دخلت مرحلة الرعب الكبير والإرهاب. ولذلك انطبقت عليها الكلمة الشهيرة: الثورة تأكل أبناءها.

وقد كان من أبنائها البررة ولكن القدر لم يرحمه. وهكذا طحنته وهو في عز الشباب (خمسين سنة). وقد مات والده وهو طفل صغير. وبما أن أمه كانت شديدة التقى والورع الديني فإنها أرسلته إلى مدرسة اليسوعيين في مدينة «رانس» الشهيرة بكاتدرائيتها ومشروب الشمبانيا! ثم انتقل بعدئذ إلى العاصمة باريس لكي يكمل دراساته فيها. ومنذ البداية أظهر كوندورسيه مواهب فكرية خارقة للعادة تقريباً. فقد كان متفوقاً في كافة المجالات تقريباً.

وبرع في الرياضيات ونال عنها الجوائز منذ نعومة أظفاره. وقد شغل بين عامي 17651774 بدراسة العلوم والنبوغ فيها. من هنا حداثته وأهميته. فقد عرف منذ البداية أن العلم سينقذ البشرية وأن فرنسا لن تتقدم إذا لم تسيطر على العلوم الرياضية والفيزيائية والتكنولوجية. ونظراً لنبوغه المبكر في هذا المجال فقد انتخبوه منذ عام 1769 عضواً في الأكاديمية الملكية للعلوم.ثم يردف المؤلف قائلاً: وفي عام 1774 حصل تحول في حياة كوندورسيه. فقد انتقل اهتمامه من العلم إلى السياسة بعد أن عيَّنوه مفتشاً عاماً للأموال.

وراح يدافع عن حقوق الإنسان في السنوات التي تلت. وكان من أشد أنصار الفقراء في المجتمع الفرنسي. كما دافع عن حقوق المرأة في التعلّم، والتوظيف، وتحمل المسؤوليات. وهنا تكمن حداثته أيضاً. فقد سار التاريخ في الاتجاه الذي كان يهجس به. فتحرر المرأة أصبح حقيقة واقعة الآن. ولكنه كان حلماً طوباوياً في زمن كوندورسيه.

وقل الأمر ذاته عن تحرير السود أو العبيد. فالناس آنذاك كانوا يعتبرون وضعهم الدوني شيئاً طبيعياً ولا يثير أي استهجان. وعندما اطلع على أحوال فرنسا عن كثب في ظل النظام الملكي القديم راح يقترح إجراء عدة إصلاحات سياسية، وإدارية، واقتصادية. وقال بأن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه إلى الأبد. وهكذا أرهص بالثورة الفرنسية حتى قبل أن تحصل عام 1789.

وكانت علاقته جيدة بالوزير القوي «تورغو». وهو أحد فلاسفة التنوير أيضاً. وقد حاول إصلاح فرنسا التي كانت تعاني من الفساد والرشاوى والأوضاع المهترئة. ولكن الملك لويس السادس عشر أقاله من منصبه عندما شعر بأنه سيمس بالامتيازات التي تتمتع بها الطبقة الارستقراطية العليا في المجتمع.

وعندما عرف كوندورسيه باستقالة زعيمه «تورغو» قدم هو الآخر استقالته أيضاً. ولكنهم رفضوها. وهكذا استمر في عمله حتى عام 1791: أي إلى ما بعد اندلاع الثورة الفرنسية بسنتين.

وقد شغل كوندورسيه أعلى المناصب العلمية والإدارية في الدولة قبل اندلاع الثورة الفرنسية وبعدها. ففي عام 1777 عيّنوه سكرتيراً عاماً لأكاديمية العلوم. وفي عام 1782 عيّنوه سكرتيراً عاماً للأكاديمية الفرنسية. وهو أعلى منصب علمي في فرنسا. وفي عام 1786 نشر كتاباً بعنوان: «حياة السيد تورغو». وفيه يروي لنا قصة حياة واحد من أهم الشخصيات الفكرية والسياسية في ذلك الزمان.

وعندما اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789 كان كوندورسيه أحد كبار أقطابها. وكان يأمل من خلالها إعادة تنظيم المجتمع بشكل عقلاني. فالمجتمع الإقطاعي السابق كان قائماً على أسس لا عقلانية ولا منطقية. فإذا ما ولدت في عائلة ارستقراطية غنية فإنك محظوظ وستظل غنياً ومتميزاً على بقية أفراد المجتمع.

وإذا ما ولدت في بيئة شعبية كما هي حالة معظم الشعب الفرنسي فليس لك أي حظ في الخلاص أو الارتقاء الاجتماعي أو التخلص من الفقر والجوع. وبالتالي فلم تكن للمزايا الشخصية أية أهمية في ذلك الزمان. هذا المجتمع القائم على التمييز بين المواطنين كان مرفوضاً من قبل كوندورسيه. لماذا؟ لانه كان يجسد المثل العليا لعصر التنوير والمساواة بين البشر في شخصه أكثر من أي مفكر آخر.

ولأنه كان يعتقد أن الإنسان بمزاياه وكفاءاته وليس بأصله وفصله وأين ولد.

وعلى الرغم من أن الثورة الفرنسية هي التي قتلته فإنه كان يجسّد مثلها العليا أيضاً. وهنا يكمن المصير التناقضي لكوندورسيه. فبدلاً من أن يكافئوه على خدماته وتفانيه في الدفاع عن الشعب راحوا يقتلونه! وهكذا ارتدت الثورة على نفسها وعلى مثلها العليا إذ قتلت أحد أنبل قادتها. ينبغي العلم بأن كوندورسيه كان محترماً طيلة الفترة الأولى من الثورة الفرنسية. وقد وصل إلى مناصب سياسية رفيعة. ولكن الدوائر دارت عليه في المرحلة الثانية للثورة.

ففي المرحلة الأولى كان نائباً عن مدينة باريس. بل وأصبح عضواً في اللجنة العليا للتعليم الوطني. وقد سلموه مسؤولية إصلاح المدارس وبرامج التعليم نظراً لاختصاصه وتعمقه في هذا المجال.

ثم يردف المؤلف قائلاً بما معناه:

والواقع أن إصلاح نظام التعليم في فرنسا كان الشغل الشاغل للمثقفين منذ زمن طويل. فالمفكر «لاشالوتيه» ألّف عام 1763 كتاباً تحت عنوان: مقالة عن التربية الوطنية وبرنامج لتعليم الشبيبة. وفيه يشن هجوماً عنيفاً على رجال الدين المسيحيين الذين كانوا يحتكرون النظام التعليمي في فرنسا. فمعظم المدارس والكليات كانت تحت سيطرة اليسوعيين: أي الإخوان المسيحيين.

ومعلوم أن جان جاك روسو كان قد سبق الجميع إلى تناول الموضوع عندما تحدث عن التربية في كتابه الشهير «اميل». ودعا إلى تغيير نظام التعليم بشكل جذري لكي يتناسب مع روح العصور الحديثة ومع الحرية والقيم الإنسانية والبيئة الطبيعية أيضاً. وكان يعتقد بأن تأسيس المجتمع الصالح يبتدئ منذ الطفولة.

ويمكن القول بأن كوندورسيه كان أحد تلامذته بشكل من الأشكال. وكان قد انهمك في التفكير في هذا الموضوع منذ زمن طويل. فالتعليم الصحيح يؤدي إلى تربية جيل صحيح ومجتمع سليم.

وكان قد نشر في إحدى المجلات المهمة أربع دراسات عن موضوع التربية. الدراسة الأولى كانت بعنوان: طبيعة التعليم العام ومحتواه. وأما الثانية فقد تحدثت عن التربية المشتركة للأطفال. هذا في حين ان الدراسة الثالثة كانت مكرسة للموضوع التالي: التعليم العام للرجال. وأما الدراسة الرابعة والأخيرة فقد تحدثت عن التعليم الخاص بالمهن أو الحرف.

وهناك دراسة خامسة لم تنشر إلا بعد موته وكانت مكرسة للموضوع التالي: كيفية تدريس العلوم للطلاب: أي علم الفيزياء والكيمياء والرياضيات ... الخ. هذا وقد كلفت الثورة الفرنسية كوندورسيه برئاسة اللجنة المسؤولة عن بلورة برامج التعليم المدرسي. ولذلك ألّف مذكرة تحت عنوان: التنظيم العام للتربية والتعليم في فرنسا.

ولكن المقترحات التي تضمنتها هذه المذكرة كانت جريئة أكثر من اللزوم وسابقة لأوانها بكثير. فقد أوصى كوندورسيه بتعميم التعليم العلماني والمجاني على كل أطفال فرنسا بدون استثناء سواء أكانوا فقراء أم أغنياء. كما وأوصى بفصل التعليم عن رجال الدين.

وهذا الشيء كان مرفوضاً في ذلك الوقت لأن الناس ما كانوا يستطيعون تخيل أي تعليم مفصول كلياً عن الدين أو عن رجال الدين.

ثم يردف المؤلف قائلاً: وقد لزم على فرنسا مئة سنة أخرى لكي تقبل بهذا البرنامج الذي وضعه كوندورسيه عام 1791. وهنا تكمن حداثة هذا المفكر الكبير الذي شق الطريق للحداثة العلمية والجامعية قبل حصولها أو تحققها على أرض الواقع بزمن طويل. حقاً لقد كان متقدماً على عصره بكثير.

والواقع أن جول فيري هو الذي نفّذ برنامج كوندورسيه بعد مئة سنة من موته! وكان ذلك عام 1882 أو 1890 وليس عام 1790. ولكن أليس المفكرون الكبار هم الذين يسبقون عصرهم ويمهدون للأجيال القادمة الطريق؟ ولكن كوندورسيه لم يكن ضد الدين في المطلق وإنما ضد التعصب الظلامي والفهم الخاطئ للدين.

فالدين يؤدي إلى تهذيب الأرواح والنفوس إذا ما فهمناه جيداً. وبالتالي فلا يمكن الاستغناء عنه. ولكن كل تعليم طائفي أو مذهبي للدين أصبح مرفوضاً في بلد مستنير قام بثورته الفكرية والسياسية وأصبح يعترف بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والطائفية.

وبالتالي فإن كوندورسيه كان يقول بما معناه: نعم للقضاء على التعصب، ولكن لا للقضاء على الدين! ولهذا السبب اصطدم بزعيم الثورة الفرنسية روبسبيير الذي أعدمه لاحقاً أو قل سجنه ودفعه دفعاً إلى الانتحار. ومعلوم ان روبسبيير كان قد هاجمه بعنف متهماً إياه بأنه خوري مقنَّع! بمعنى آخر فإنه ليس رجلاً مستنيراً ولا ثورياً بما فيه الكفاية وإنما هو من أتباع العهد القديم.

وهذا اتهام ظالم وغير صحيح على الإطلاق. ولكن العنف الثوري ما كان يسمح للناس آنذاك بأن يفكروا بشكل رزين أو على مهل. فالنفوس كانت محتقنة وهائجة جداً على بعضها البعض. وقد أكلت الثورة الفرنسية أبناءها الواحد بعد الآخر.

هذه هي بعض ملامح سيرة ذلك الرجل الفذ: كوندورسيه. فقد ضحى بنفسه من أجل أن يتحرر الشعب ويتعلم ويتثقف ويستنير.

بل ودفع حياته ثمناً لذلك. ولكنه خلّف وراءه ذكرى لا تنسى وكتاباً شهيراً تحت عنوان: بلورة مشروع تاريخي لتقدم الروح البشرية.

الكتاب: كوندورسيه والحداثة

الناشر: مطبوعات جامعة كامبردج 2005

الصفحات: 306 صفحات من القطع المتوسط

CONDORCET AND MODERNITY

DAVID WILLIAMS

CAMBRIOGE UNIVERSITY PRESS 2005

P. 306