مؤلف هذا الكتاب هو الكاتب والصحافي الفرنسي المعروف روبير سوليه. وكان قد ولد في مصر وترعرع قبل أن يهاجر إلى فرنسا ويصبح أحد الكتاب والصحافيين المهمين في جريدة «لوموند» الشهيرة، جريدة المثقفين الفرنسيين.
وهو كاتب روائي وباحث فكري ومراسل صحفي في ذات الوقت. وكثيرا ما تستوحي رواياته أجواء مصر، بلده الأصلي الذي لا يزال يحنّ إليه. نذكر من بين هذه الروايات التي لقيت نجاحا في المكتبة الفرنسية: رواية «الطربوش»، و«منارة الإسكندرية»، و«المملوكة»، الخ.كما ونشر عدة كتب فكرية عن مصر، نذكر من بينها: «مصر، ولع فرنسي»، ثم «القاموس المحب لمصر»، هذا بالإضافة إلى كتب أخرى ومقالات عديدة يصعب عدها أو إحصاؤها.وفي هذا الكتاب الجديد الذي صدر مؤخرا في العاصمة الفرنسية يتحدث روبير سوليه عن حملة نابليون على مصر عام 1798: أي قبل قرنين ونصف. ويقول بأن نظرة المثقفين العرب لهذا الحدث الضخم تختلف عن نظرة المثقفين الفرنسيين والغربيين بشكل عام.
فالمثقفون العرب يرون فيها نوعا من العدوان الاستعماري على الشرق الإسلامي في عقر داره. وأما المثقفون الفرنسيون فيرون فيها نوعا من المحاولة لإدخال مصر في الحداثة وإخراجها من نومها العميق أو تخلفها الشرقي.
ولكن ينبغي الاعتراف بأن العديد من المثقفين العرب يرون فيها أيضا حدثا إيجابيا لأنها أدت إلى إدخال العرب وليس فقط مصر في الحداثة العلمية والتكنولوجية وربما السياسية. ولم يغير قسم منهم نظرتهم نحوها إلا مؤخرا وتحت ضغط الأحداث الجارية (كالحملة على العراق، أو نكبة فلسطين، أو سوى ذلك).
يضاف إلى ذلك أن التيار الأصولي والقومي العربي المتطرف هو وحده الذي لا يرى فيها إلا ظاهرة سلبية. أما الليبراليون العرب فيعترفون بإيجابياتها على الرغم من سلبيات الفتح العسكري وما يرافقه عادة من مواجهات دامية.
وبالتالي فموقف المثقفين المصريين أو العرب منها ليس واحدا ولا موحدا.ثم يردف المؤلف قائلا:في الواقع أن حملة نابليون بونابرت على مصر تعرضت لتفسيرات أو تأويلات عديدة ومختلفة على مدار القرنين الماضيين. وقد أشعلت أو ألهبت خيال الفرنسيين والأوروبيين عموما. ورأوا فيها نوعا من فتح الشرق وكشف أسراره ورموزه.
كما ورأى فيها مثقفو الغرب فتحا ثلاثي الأبعاد، فقد كانت أولا فتحا عسكريا يهدف إلى حرمان الإنجليز من السيطرة على بلد غني مليء بالثروات ويقع على طريق الهند.
وهذا هو الهدف الأول للفتح، وأما الثاني فكان فتحا سياسيا لأنه هدف إلى إدخال أفكار الثورة الفرنسية إلى مصر وتعريف المصريين بحضارة عصر الأنوار. وأما الثالث فكان فتحا علميا، وذلك لأن نابليون بونابرت أخذ معه فريقا علميا ضخما مؤلفا من مائة وستين عالماً في شتى الاختصاصات.
وهؤلاء هم الذين أسسوا المعهد العلمي لمصر وشرعوا بدراسة التاريخ المصري وكذلك الآثار والمجتمع بشكل علمي. ويمكن القول بأن النهضة العلمية لمصر ابتدأت منذ ذلك الوقت. وهذا الفريق العلمي الكبير هو الذي رافق الحملة العسكرية التي كانت تضم ما لا يقل عن خمسين ألف جندي وبحّار.
يتألف الكتاب من أكثر من خمسين فصلا، نذكر من بينها: نداء الشرق، بلد معرض للفتح، مذكرات تاليران، جنود وعلماء، ثلاثمائة سفينة حربية تذهب لفتح مصر، مدينة الإسكندرية في ذلك الزمان، مؤرخ القاهرة، على الرمل المشتعل، معركة الأهرامات، بلد مفتوح، عصب الحرب، أبوقير: البحر يشتعل، تأسيس معهد مصر من قبل نابليون، ضد الباب العالي، أي الأتراك، فتح صعيد مصر، وداعا بونابرت، الخ.
ومن أهم فصول الكتاب نذكر الفصلين الأخيرين اللذين يتحدثان عن الدور الذي لعبه محمد علي بعد مغادرة الفرنسيين لمصر بسنوات قليلة (1805)، وعن المحصلة الختامية لهذه الحملة العسكرية والاستعمارية الشهيرة. هناك جوانب إيجابية وجوانب سلبية لهذه الحملة.
فالمثقفون الفرنسيون وبعض العرب أيضا يرون أنها أيقظت مصر من سباتها الحضاري الطويل وفتحت عينيها على الحداثة الأوروبية. لقد أخرجتها من فترة العصور الوسطى الظلامية وأدخلتها في عصور الأنوار الحديثة.
ولكن العديد من المؤرخين والمثقفين المصريين يعارضون هذه النظرة ويرفضونها.
فهم يقولون أن مصر لم تكن في حالة انحطاط حضاري كامل كما يزعم مؤيدو بونابرت. ولم يكن الفكر فيها يقتصر على التعليم المتكلس والمتحنط للأزهر، وإنما كان هناك تعليم دنيوي وعلمي وهو الذي أنجب شخصيات هامة كالمؤرخ الجبرتي أو الشيخ حسن العطار.
ولكن لا ينبغي أن يبالغ هؤلاء في هذا الاتجاه. فالتحدث عن نهضة فكرية في مصر قبل حملة نابليون شيء مضحك ولا يصمد أمام الامتحان التاريخي. ولكن الأصوليين الكارهين للحضارة الغربية يريدون المكابرة وإنكار الحقيقة الساطعة كالشمس، ليس إلا.
ثم يردف المؤلف قائلا:صحيح أن الفرنسيين لم يبقوا في مصر إلا وقتا قصيرا، أقل من ثلاث سنوات. ولكنها كانت كافية لإحداث صدمة فكرية قادرة على إيقاظ مصر وفتح عينيها. فقد أحدثوا قطيعة في النظام السياسي السائد في مصر.
ولولا هذه القطيعة لما كان ممكنا أن يجيء محمد علي الذي كان المحدّث الحقيقي لمصر. معروف عنه إعجابه الكبير بالحضارة الفرنسية. وبالتالي فهو امتداد حضاري للحملة بشكل من الأشكال. ولولا نتائج هذه الحملة لما قبل أعيان القاهرة بتنصيبه حاكما عليهم عام 1805. وهذا ما يقوله الدكتور رؤوف عباس نائب عميد كلية الآداب في القاهرة.
فحكم الفرنسيين الذي دام ثلاث سنوات تقريبا أفهم المصريين أنه لم يعد بإمكانهم أن يثقوا بالمماليك ولا بالعثمانيين. وبالتالي فإن عليهم البحث عن عقد جديد للحكم وهذا العقد تم من خلال محمد علي.
وميزة فرنسا هي أنها ساهمت بكل فعالية في تحديث مصر في الوقت الذي انخرط فيه باكتشاف الحضارة الفرعونية القديمة التي كانت مهملة ولا أحد يهتم بها. وحملة نابليون كانت كالقنبلة الموقوتة التي انفجرت نتائجها الإيجابية لاحقا: كفك أسرار اللغة الهيروغليفية وشق قناة السويس.
يضاف إلى ذلك أن علماء فرنسا الذين رافقوا نابليون خلفوا وراءهم كنزا علميا وتاريخيا لا يقدر بثمن: ألا وهو الموسوعة الشهيرة باسم: وصف مصر.
ولا يمكن لأي مؤرخ معاصر أن يفهم شخصية مصر وأوضاعها في أوائل القرن التاسع عشر أن لم يعد إلى هذه الموسوعة الضخمة التي لم تتم ترجمتها كليا إلى العربية حتى الآن.
*الكتاب:نابليون بونابرت فاتحا لمصر
*تأليف:روبير سوليه
*الناشر:سويل ـ باريس 2006
*الصفحات : 363 صفحة من القطع الكبير
Bonaparte à la conquête de l'Egypte
Robert Solé
Seuil- Paris 2006
p.363