يعد الدكتور رمسيس عوض (أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الألسن جامعة عين شمس) من الباحثين العرب القلائل الذين درسوا معسكرات الاعتقال النازية، وعكف على جمع وثائق كثيرة ليصدر له في هذا الموضوع نحو عشرة كتب أحدثها كتابه الخامس والخمسين الذي يكتسب أهمية خاصة لتوقيته حيث يدور الجدل في الفترة الأخيرة بكل سخونة مجددا حول طبيعة معسكرات الاعتقال النازية وانتماءات وتصنيفات الضحايا وأعدادهم وأسباب وفاتهم.

وبعد أن أثار مؤتمر إنكار الكارثة النازية في طهران كثيرا من علامات الاستفهام في ظل مشاركة قوية لحاخامات يهود ـ تابعين لطائفة لا تعترف بدولة إسرائيل ـ إسهام الدكتور الموسوعي رمسيس عوض الجاد في هذا المجال جاء بكشفه النقاب عن تفاصيل معسكر نازي ساهم في قيام دولة إسرائيل، وفي الوقت نفسه كشف لنا أن معسكرات الاعتقال لم تكن كلها للإبادة منذ أول لحظة، وأن عدد من الذين لقوا حتفهم كانوا يتوفون لأسباب طبيعية نتيجة المرض وظروف الاعتقال. وحسب مقدمة كتاب رمسيس عوض فإن: الحديث عن محرقة اليهود موضوع بالغ الحساسية في ظل الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلى. ولكن هذا ـ في رأي المؤلف ـ لا ينهض مبررا أو تعاطفا مع ما يفعله اليهود، ولا يبرر التنكيل والخسف الذي يلقاه الفلسطينيون على يد اليهود في وقتنا الراهن ، لأن هذا معناه استبدال الهولوكست اليهودي بهولوكست عربي.

الكتاب الذي يقدمه المؤلف للمكتبة العربية يتمحور حول ما وصفه رمسيس عوض بسجن المحظوظين أو حسب وصف النازيين أنفسهم معتقل النقاهة والذي كان رسميا يقدم خدماته لمن أصيب بعلل تمنعه من العمل في بقية معسكرات الاعتقال،

وإن كان في الواقع معسكر يهدف لاحتجاز الأثرياء من اليهود ثم السماح لهم بالهجرة لفلسطين مقابل الإفراج عن أسرى نازيين. المعسكر المقصود هو معسكر برجن بلسن والذي كان يهدف للحفاظ على حياة أسراه من اليهود للمساومة عليهم ومقايضتهم بالأسرى الألمان لدى قوات الحلفاء.

وخلفية تأسيس هذا المعسكر تتمثل في إصدار هتلر في 4 فبراير 1933 مرسوما بفرض قانون الطواريء وتمكن النازيون من القبض على المعارضين خاصة بعد الحريق الغامض الذي اندلع في مبنى البرلمان الألماني. وفي معظم الأحيان كان الاحتجاز الوقائي يعني الزج بالمعارضين السياسيين في السجون،

وكان سجناء هذه المعسكرات وهم من المعارضين الألمان يتعرضون لانتهاكات يومية. وفي صيف 1933 توقف إقامة معسكرات عشوائية وأصبحت كل المعسكرات تحت سيطرة وزارة الداخلية وسلطات الأمن النازية.

وفي السنوات الأولى من إقامة معسكرات الاعتقال لم تزد نسبة النزلاء من اليهود على 10 % من مجموع السجناء بينما كان 90% من النزلاء من الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين ونشطاء الحركات النقابية، وقد أقيمت هذه المعسكرات الكبيرة في أماكن مجاورة للمناجم والمحاجر

للاستفادة من عمالة السجناء بأقل النفقات وهذا الاعتبار الاقتصادي هو الذي دعا فيما بعد لإقامة عدد آخر من المعسكرات في مواقع الإنتاج، والجدير بالذكر أن النازيين استفادوا بوجه خاص من عمالة السجناء الرخيصة منذ عام 1937 فصاعدا في قطاع التشييد والبناء.

مع العلم بأن من بين أهداف هذه المعسكرات كذلك: دفع آلاف اليهود لمغادرة الأراضي الألمانية، حيث ان معظم اليهود المقبوض عليهم في نوفمبر 1938 ـ على سبيل المثال ـ مكثوا في المعسكرات لأسابيع قليلة ثم أطلق سراحهم لمجرد موافقتهم على الهجرة من ألمانيا.

وقد انخفضت أعداد السجناء في معسكرات الاعتقال في ربيع وصيف عام 1939 ولكن عذرهم ما لبث أن ارتفع إلى نحو 25 ألف سجين مع بداية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939. ووفقا للمصادر التي اعتمد عليها كتاب الدكتور رمسيس فقد كان التنكيل يتمثل في تعمد استنزاف طاقة السجناء في مواقع الإنتاج حتى تفيض أرواحهم حيث مات من الإرهاق والأمراض نحو نصف مليون شخص (!) بالإضافة لمن مات بالرصاص والغاز مع غزو الاتحاد السوفييتي.

أما بالنسبة لمعسكر بيرجين بيلسين فخضع منذ تأسيسه عام 1943 للوائح خاصة سمحت بالتحفظ على ألف يهودي من أوروبا للمقايضة عليهم بناء على اقتراح من الشؤون القانونية بوزارة الخارجية حيث كانت الخطة ترتكز على فكرة تبادل اليهود الذين يحملون جنسية مزدوجة (بريطانية أو أميركية) بالأسرى الألمان الواقعين في قبضة الحلفاء.

وقد شرح مدير الشؤون القانونية بالخارجية الألمانية فكرته والتي نفذت بالفعل وكان من بينهم 300 يهودي ألماني وبولندي، بجانب إعداد قائمة بـ 1600 يهودي للمقايضة بألمان. وقد تحدثت الشؤون القانونية كذلك عن تبادل لليهود الهولنديين والنرويجيين والسوفييت.

ووصل العدد في مرحلة مبكرة لثلاثين ألف يهودي من الجنسيات سالفة الذكر وكانوا ممن ينتمون لعائلات لديها نفوذ في بلاد الأعداء وتوفر إمكانية تبادل هؤلاء، أو ممارسة ضغط سياسي أو اقتصادي من خلالهم. د. رمسيس أشار في كتابه الجديد إلى أن النازية كانت تراعي عمليات التفتيش على المعسكرات وفقا لمواثيق جنيف وأنه نظرا لالتزام هتلر بهذه المواثيق تم اختيار المعسكرات في أماكن تسمح للجان الدولية بزيارتها.

وكشف المؤلف أن السلطة النازية كانت تعين مشرفين من اليهود كوسطاء بينهم وبين المعتقلين وكان بعض هؤلاء يتعامل بتعالي وصلف مع اليهود من بني جلدته(!) وأن من بين وسائل (التعذيب) النازية منع تقديم طبيب المعتقل الأدوية للمرضى، مع ملاحظة أن النساء يتم معاملتها بشكل أفضل. وبشكل عام كان معسكر برجن بلسن معسكر نقاهة تذهب إليه أيضا الحوامل والمريضات والذين لا تسمح ظروفهم بالعمل في معسكرات الإنتاج.

ومن بين البيانات المثيرة التي سجلها الدكتور رمسيس حقيقة أن «الموت ظل يحصد أرواح الكثيرين من سجناء معسكر برجن بلسن حتى بعد تحريره على أيدي القوات البريطانية يوم 15 ابريل 1945، ولم تنخفض معدلات الوفيات في هذا المعسكر إلا في منتصف شهر مايو من العام المذكور.

وفي الفترة من 15 ابريل حتى 20 يونيو 1945 مات في برجن بلسن نحو 14 ألف سجين، وبذلك يصل إجمالي ضحاياه المعسكر إلى خمسين ألف ضحية وهي أرقام ندعو في النهاية لتأملها وتحليلها بشكل منطقي وعلمي لنستخلص نتائج مهمة جديدة».

أحمد فؤاد أنور

*الكتاب: معسكر الاعتقال النازي برجن بلسن

*الناشر:مكتبة الانجلو المصرية القاهرة 2007

*الصفحات:255 صفحة من القطع المتوسط