يتناول الباحث الدكتور علي وطفة في كتابه الجمود والتجديد في العقلية العربية ـ مكاشفات نقدية دلالات مفهوم العقلية على إيقاع التنوع في التوظيفات المختلفة له عند المفكرين والباحثين والدارسين من مختلف الاتجاهات والمدارس الفكرية.
ويحدد العقلية بأنها تشكل الروح الخفية والغامضة التي تشكل الطاقة الأساسية للحركة والوجود الإنساني، وهي في النهاية نظام من السلوك والنظرة إلى العالم، يتشكل ويتبلور في الأفران الثقافية للمجتمعات الإنسانية ويشير المؤلف إلى أن مفهوم العقلية قد شهد ولادته العلمية في مطلع القرن العشرين على يد الأنثروبولوجي المعروف ليفي برول 1939 ـ 1957ـ ولا سيما في كتابه الوظائف العقلية في المجتمعات الدنيا عام 1910 ومن ثم في كتابه العقلية البدائية عام 1922.
ويستمر المؤلف في الإتيان بالتعريفات المتعددة لمفهوم العقلية ويستشهد ببعض التلميحات الشاردة لمفهوم العقلية في ثنايا المقولات الفكرية لبعض المفكرين العرب ومنهم د. تركي الحمد الذي يعرف العقلية من مدخل الذهنية حيث يقول: إن الذهن تركيب معقد من مفاهيم ومصطلحات ورموز تدخل في علاقة داخلية بنيوية مع بعضها البعض لتشكل المنظار الذي من خلاله ينظر الإنسان إلى محيطه (الكون والمجتمع) ويتشكل بذلك وعيه الذي يحدد سلوكه المباشر .
وناقش المؤلف قضية العقل البدائي التي أولاها الباحثون أهمية خاصة وبدأوا بدراسة سمات وخصائص هذه العقلية سعياً منهم إلى طبيعة التطور العقلي والذهني الذي شهدته العقلية الإنسانية عبر التاريخ إلى يومنا الراهن، وما يتم التركيز عليه في البحوث الجارية في قضية تطور العقلية الإنسانية يدور حول أوجه التباين والاختلاف بين العقلية المعاصرة والعقلية البدائية ويعد ليفي برول من أبرز الباحثين والمنظرين في مجال العلاقة بين العقلية البدائية والعقلية الحديثة.
حيث يقابل بين العقلية المنطقية وبين العقلية الما قبل المنطقية التي ينسبها إلى الإنسان البدائي، ويبين برول في هذا السياق بأن ذهنية البدائي تعتمد على منظومة من المبادئ والمعايير التي تختلف عن هذه التي تؤسس للعقلية الحديثة، فالبدائي لا يستطيع أن يرى العلاقات التي نراها نحن في الأشياء، وهو بالتالي يصف هذه الأشياء بطريقة مختلفة تماماً عن هذه التي نعتمدها نحن.
ويحاول المؤلف التفريق بين العقلية البدائية والعقلية التقليدية، إذ يشار إلى العقلية البدائية بوصفها هذه التي سادت في مراحل تاريخية مغرقة في القدم، ولا سيما في العصور القديمة التي سبقت ظهور الكتابة أي قبل الألف السادس للميلاد، وغالباً ما يشار بذلك إلى أنماط الإنتاج الرعوية، وإلى المجتمعات الإنسانية التي كانت تعتمد وسائل بدائية جداً في الحياة والوجود ولا سيما في العصور الحجرية والبرونزية.
ويشار إلى العقلية التقليدية عادة إلى هذه التي سادت في عصور ما بعد الكتابة وصولاً إلى مرحلة اكتشاف الطباعة وبداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر والسادس عشر، ومن المؤكد أن هذا الخط التاريخي الذي رسمناه ـ المؤلف ـ يحمل تقطعات تاريخية، لا يمكن أن تحدد، إذ يمكن لنا أن نجد في ثنايا العصر الذي نعيش فيه اليوم أنماط وجود وحياة تقليدية تعود بأصولها إلى مراحل ما قبل النهضة الغربية.
وتناول المؤلف العقلية العربية في مرآة الفكر العربي المعاصر حيث ركز المفكرون العرب على العقلية العربية بالدراسة والتحليل وأفاضوا في دراستها وتفكيكها وفقاً لمفهوم الثقافة بمعناه المحدد، مما لا شك فيه أن مفهوم الثقافة الموظف في تحليل الذهنية العربية يتسم بالشمول والاتساع وهذا يفقده كثيراً من فعاليته المنهجية في تحليل الواقع والكشف عن دينامياته المعقدة يكاد يقتصر مفهوم الثقافة في الدراسات العربية غير المتخصصة على الفكر الإبداعي بصورته الأدبية والفكرية.
وغالباً ما يتم استبعاد المكونات الأنثروبولوجية للثقافة وينجم عن هذا غياب لعلم الاناسة «الأنثروبولوجيا» الذي أعطى لمفهوم الثقافة أهم مضامينه الاجتماعية، فالثقافة بعيداً عن سياقها الأدبي والإبداعي وفي عمقها الأنثروبولوجي ظاهرة اجتماعية نفسية تحتل مكانها في عقول الأفراد وتظهر على شكل سلوك في تصرفاتهم اليومية.
فالثقافة العربية كما يصفها أغلب الباحثين العرب ماضوية تعتمد مبدأ قياس الشاهد على الغائب وهي بالتالي ثقافة اسطورية تنطلق من أفكار اعجازية تتجاوز حدود المنطق وواقع الحياة وتعلو إلى مستوى الخرافة والأسطورة وغير ذلك من المفاهيم، وكما يقول عبدالمعطي سويد فإن أسس التفكير العربي تقوم على الحدس والعاطفة والوجدان والتذوق والخيال، وهذه الأسس ترتدي أحياناً ثوباً من لغة العقل ولكنها في جوهرها معرفة أدبية شعرية أو تفكير شعري، ولا يمكن الانطلاق منها نحو تكوين إطار حضاري مستقبلي كما لا يمكن تحليل واقعنا وتصور مستقبله بناءً على هذه الأسس المذكورة.
وعن المضامين الخرافية في العقلية العربية المعاصرة أكد المؤلف أن الوطن العربي منذ القرن التاسع عشر يحاول النهوض بمقومات وجوده وأن ينفض عن نفسه غبار الزمن، سعياً منه إلى بناء نهضته وتحقيق حداثته، ومع تعدد المحاولات فإن الوطن العربي مازال يرزح تحت مطارق التخلف والتبعية، لقد تنبه رواد عصر النهضة العربية منذ البداية إلى أهمية بناء عقلية عربية متنورة في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية.
لقد حاول هؤلاء الرواد تطهير العقل العربي من أعشاب الخرافة والأساطير فأعلوا من شأن العقل والعقلانية، وأكدوا أهمية العلم والمعرفة العلمية عبر أبحاثهم ونداءاتهم ودعواتهم السياسية والفكرية، ومع مضي أكثر من قرن على هذه الدعوات وظهور أجيال جديدة من المنورين مازال العقل العربي يغفو في ظلمات العصور الوسطى ومازال الإنسان العربي المعاصر يعاني من سيطرة رواسب خرافية وأسطورية لا حدود لها في مختلف شرائحه الاجتماعية بين العامة والخاصة كما بين النخبة والجماهير.
ويشير المؤلف إلى تناقضات الانتماء في العقلية العربية، مشيراً انه مع الدور التاريخي للتكوينات الاجتماعية الصغرى، الطائفية والعشائرية والقبلية منها، ومع أهمية الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها في المجتمعات العربية التقليدية في ظل غياب الحياة الديمقراطية فإن هذه التكوينات وما تفرضه من مشاعر انتماء وولاء تناهض حركة التطور الاجتماعي وتكبح جماح الحداثة بكل معانيها واتجاهاتها.
فهذه التكوينات بما تنطوي عليه من قيم عقلية ومعايير الوجود والتفكير والممارسات، تقاوم مختلف اتجاهات النهوض الحضاري والتكنولوجي، لأن القيم الطائفية والعشائرية والعائلية تصيب حركة النهوض الحضاري بمقتل، وتخل بكل إمكانيات النقلة الحضارية الممكنة، وتشكل عامل هدم للتماسك الاجتماعي الممكن في المجتمعات العربية. وعن إشكالية الزمن في العقلية العربية أشار الباحث إلى أنها تتحدد معالم هوية الإنسان من خلال موقفه من الزمن، فبعض الشعوب تعظم الماضي، وبعضها يولي الحاضر أهمية أكبر.
أما بعضها الآخر فيندفع للمستقبل بلا حدود، ويرفعه شعاراً لوجوده وحضارته، وعلى أساس إيقاعات الزمن يجري تصنيف الشعوب والأمم إلى مجتمعات تقليدية أو مجتمعات معاصرة حديثة، فالمجتمعات التقليدية تمجد الماضي وتدور في ثناياه وتضاريس وجوده، أما المجتمعات الحديثة فهي التي تجد نفسها في اللحظات الآتية التي تقتضي من الإنسان الإبداع والمبادرة والمغامرة نحو آفاق إنسانية أكثر عمقاً وأصالة، فالمجتمعات التقليدية التي تمجد الماضي مجتمعات ساكنة ستاتيكية أما المجتمعات التي تمجد المستقبل فهي مجتمعات دينامية حرة .
العقل العربي
ان المفكرين العرب تناولوا العقلية العربية في ضوء مفاهيم متعددة مثل العقل العربي، الشخصية العربية، الهوية العربية الإسلامية، الثقافة العربية، التراث العربي الإسلامي، وقلما استخدموا مفهوم العقلية بصيغته الأنثروبولوجية والتي نجدها في الأعمال الفكرية الغربية، وهي صيغة تتسم بالوضوح والعمق المعرفي، وهذا يعني بالمقابل أن مفاهيم الهوية والشخصية والثقافة تشكل مفاهيم متموجة وغامضة، وهي بالتالي أقل قدرة على تحديد الروح الثقافية للشعب أو للأمة أو للأفراد، وإذا كانت الثقافة تأخذ صورة الإطار العام للمنظومة القيمية السائدة في المجتمع فإن العقلية تشكل مضمون الثقافة ومحتواها.
المؤلف في سطور
د. علي أسعد وطفة باحث سوري وأستاذ في كليتي التربية بجامعتي الكويت ودمشق يحمل ليسانس في الفلسفة وعلم الاجتماع من جامعة دمشق 1979، وماجستير ودكتوراه في علم الاجتماع التربوي وأصول التربية من جامعة كان الفرنسية، كما عمل وكيلاً لكلية التربية ورئيساً لشعبة التربية وعلم النفس في الموسوعة العربية، ورئيساً لقسم أصول التربية في كلية التربية وخبيراً تربوياً في المجلس الأعلى للتخطيط في دولة قطر، وهو عضو اتحاد الكتاب العرب (فرع سوريا)، وعضو الجمعية الفرنسية لعلم الاجتماع التربوي.
حواس محمود
الكتاب: الجمود والتجديد في العقلية العربية مكاشفات نقدية
تأليف: د. علي أسعد وطفة
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقافة دمشق 2007
صفحات: 360 صفحة
القطع: المتوسط