على الرغم من أنه لم يغادر مسقط رأسه (دمشق) طوال حياته، ولم يتودد لوسائل الإعلام، ولا طلب الشهرة، ولا أقام المعارض لأعماله بنفسه، إلا أنه نال من الاهتمام والاحتفاء بفنه في غالبية عواصم العالم، ما لم ينله فنان عربي معاصر، كما أن تجربته الفنيّة، على بساطتها وشعبيتها وبدائيتها، أثرت على العديد من الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين، وأخذت طريقها إلى أكثر من فيلم وكتاب ورسالة جامعيّة. انه الفنان الشعبي الراحل أبو صبحي التيناوي.

ما زالت تجربة الرائد أبو صبحي التيناوي تتفاعل حتى اليوم، على الصعيد العملي والنظري، لا سيما وأن حفيدته (نجاح التيناوي) تابعت تجربته (شكلاً وموضوعاً) وتقدمها بشكل مستمر لعشاق فنه الذين اقتصروا في البداية، على الناس الشعبيين، ثم توسعت الدائرة لتشمل المثقفين السوريين والعرب والأجانب، حيث ساهم اللبنانيون بتعريف أوروبا على فنه، ونشطوا في نقل لوحاته من دكانه الصغير (ثم لاحقاً من بيته) الواقع في منطقة باب الجابية بدمشق إلى بيروت ومنها إلى أنحاء العالم كافة. فقد كانوا يقصدون دمشق في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أيام الآحاد، للتزود بالحلويات الشامية ولوحات أبي صبحي التيناوي، واستمر الحال حتى رحيله في العام 1973.

لم تنقطع الظاهرة التيناويّة برحيل معلمها الأكبر، بل تابعت حضورها واستمرت على يد أولاده وأحفاده، واستمرت لوحاته في تغذية السوق الشامي التقليدي، مثلها مثل أي تحفة تجود بها أنامل الحرفيين الماهرين، وهذا أمر طبيعي، إذا ما علمنا أنه تعلم الفن بالوراثة من أبيه، وعلّمه بدوره لأولاده وأحفاده، كما درجت العادة من توارث المهن والحرف العريقة، ضمن الأسرة الواحدة، باعتبارها سراً، ومصدر رزق، يجب ألا يطلع عليه أحد، درءاً للمنافسة، وصوناً للأصول، ولا يجد مفراً من التصريح (هذا سر المهنة) ولا يمكن لأحد الإطلاع عليه.

سافرت لوحات التيناوي إلى عواصم العالم المختلفة، شرقاً وغرباً، وبعضها أخذ طريقه إلى صالات متاحف عالمية شهيرة، وانضوت في العديد من المعارض التي أقيمت لها وهو لا يعلم عنها شيئاً، ويبدو أن الأمر ليس مهماً بالنسبة له، ولا يعرف رساماً اسمه (بيكاسو). ولم يكن يخشى أن يقلده احد لأن توقيعه الذي يرصع به أبرز مكان في اللوحة كالتالي: (الرسام أبو صبحي التيناوي ـ دمشق ـ باب الجابية ـ زاوية الهنود ـ سورية) أي أنه كان يوقع بعنوانه الكامل، وهو ما يسر لمحبي فنه إمكانية الوصول إليه بشكل مباشر أو عبر الوسطاء.

الشيخ الطفل

ينهض فن التيناوي على نوع من العفوية الساذجة، وعلى السير الشعبيّة المجسدة للقيم النبيلة المكوّنة لوجدان الإنسان العربي، وهو مؤمن إلى حد المطلق، بهذه القيم ورموزها. فعنترة بالنسبة له، أقوى رجل في العالم، وعبلة ست الحسن بلا منازع، بدليل أنني عندما أشرت إلى زميلتي التي كانت بصحبتي ونحن في بيته الدمشقي العتيق مثله، طالباً منه رسمها بدلاً عن (عبلة) ضحك متهكماً عليَّ وعليها قائلاً: مَن يرسم عبلة لا يرسم مثل هذه الأشكال؟!.

على هذا الأساس اقتصر الاهتمام برسومه على الناس الشعبيين الذين كانوا يجدون فيها صوراً عنهم وعن الرموز النبيلة المُجسدة للبطولة و(الجدعنة) وقيم الخير المختلفة التي آمنوا بها وتمثلوها في حياتهم وسلوكهم.

وأمام رسومه، يشعر المتلقي أنه أمام طفل كبير، يمارس لعبة الرسم والتلوين بحرية وشفافية كبيرتين، وفي نفس الوقت، بأصالة وصدق وخبرة وإتقان ومهارة الحرفي الذي لا يغش في منتجه، بدليل أنه في إحدى لوحاته الأثيرة التي رسم فيها عنترة وعبلة.

لم يسعفه الفراغ الملاصق لذيل حصان عنترة (الأبجر) ـ وكان يُعرّف بأسماء الشخوص والحيوانات التي يرسمها بكتابة أسمائها إلى جانبها، لكي لا يختلط على المتلقي الأمر، ويخلط بينها ـ بإكمال هذا الذيل، ما دفعه إلى مد خط من المنبت إلى أعلى اللوحة حيث وجد الفراغ المناسب لإكماله كاتباً إلى جانبه: هذا الذيل لهذا الحصان، وذلك احتراماً لعنترة ومكانته لديه ولاحترامه للزبون، بدليل أنه عندما لُفت انتباهه إلى أن هذه العملية شوهت اللوحة، وكان من الأفضل التغاضي عن الذيل، غضب واحتد قائلاً: هل جئتم تعلموني الغش ... الزبون اشترى مني الحصان كاملاً، فكيف تريدني أن أعطيه إياه ناقصاً؟!.

أساطير البسطاء

كانت لوحات التيناوي ولا تزال، موجودة بكثرة في البيوت الشعبية السورية عموماً، والدمشقيّة خصوصاً. ترتبط مواضيعها بتفكير وحكايا وأساطير الناس البسطاء، وبالحياة الشعبيّة الدمشقيّة. فمنذ أيام هذا الرسام الشعبي وحتى اليوم، تخفي كل حارة في الحارات الشعبيّة العربية (عنترة) و(عبلة) وهو الموضوع الأثير الذي عالجه التيناوي في لوحاته، إضافة إلى اللقاء الشهير بين الإمام علي بن أبي طالب وعمر بن ود العامري، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي، ومحفل الحج.

يقوم فن التيناوي على جملة من المصادر منها شخصية (كراكوز) الشهمة (الجدعة) التي وجدت في اليونان وتركيا والشرق العربي التي استوحاها التيناوي وأعطاها طبيعة الإنسان السوري القديم، وصبغها بصبغة محليّة، تمثلت بشخصية الدمشقي العتيق.

الروح التيناوية

رغم تعدد المصادر واختلافها في رسوم التيناوي، إلا أنه أخضعها جميعها لشخصيته المتميزة ذات الجو الخاص، والأسلوب المتفرد بعفويته وبساطته وبدائيته، وهو مصبوغ بصبغة محلية شعبية افتقدها فناننا العربي المعاصر، ويجاهد اليوم للفوز بها.

لا شك أن التيناوي له أقران وأشباه في البلاد العربية، يشتغلون على نفس الموضوعات الشعبية المحلية، وبأساليب وصياغات متشابهة، قد تختلف في مسمياتها وعناوينها، لكنها جميعاً، تلتقي في الرمز والدلالة والهدف والمضامين التي تلح على القيم التي يجسدها شخوصها التي شكلت أحد المصادر الهامة للإنسان العربي الشعبي حيث حاول تمثلها باللباس، وطريقة وضع الخناجر على الجانب، والشاربين المعكفوين الطويلين، وملامح العزة والشهامة التي تعلو وجوه أبطال السير الشعبية.

على هذا الأساس، يمكن اعتبار التيناوي فناناً شعبياً مرتبطاً بتاريخ طويل، وهو في نفس الوقت، فنان معاصر، فعلى الرغم من بدائيته وشعبيته، ظل مُتفاعلاً مع كل شيء يُحكى له، بعد أن يمنحه نكهة الشرق العربي المطهمة بالغرابة والسحر، وهو رغم اتكائه الواضح، على بعض المخطوطات القديمة التي كان يملكها، غير أنه أضفى روحيته التيناوية الخاصة عليها.

رسام القناعات المطلقة

ولد محمد حرب الشهير باسم (أبو صبحي التيناوي) في منطقة (باب الجابية) بدمشق القديمة عام 1888 وتوفي فيها عام 1973. تعلم الرسم عن أبيه بالوراثة، وعلًمه لأولاده وأحفاده. نفذ آلاف اللوحات التي أخذت طريقها في البداية، إلى البيوت الشعبيّة وخيم الثوار في سورية، ثم إلى لبنان، ثم إلى أنحاء العالم كافة. نفذ هذه اللوحات على الزجاج، وبألوان كان يحضّرها بنفسه، وفي آخر أيامه لجأ إلى استخدام القماش في تنفيذها، وهو ما اعتبره فتحاً جديداً ومهماً في تجربته.

د. محمود شاهين