واحة الغروب

ربما لم يقدر لرواية عربية حديثة أن تعرف دفقاً من الكتابة عنها والتحليل النقدي لها كذلك الذي عرفته رواية «واحة الغروب» للروائي الستيني بهاء طاهر، وخاصة بعد فوزه عنها بجائزة بوكر للرواية العربية.

ومن المؤكد أن هذا الاهتمام لم يأت من فراغ، وبالتأكيد ليس راجعاً لمؤلفها، فهذا الرجل السبعيني ليس له موقع في آليات النشر ولا البيروقراطية الثقافية العربية، ومن ثم فإن هذا الاهتمام يعود إلى الإبداع الذي ضمته الرواية بين دفتيها، وهي تستحق هذه الاهتمام عن جدارة.وربما كان من أبرز ملامح هذا الاستحقاق المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية، فهي تجري في واحة سيوة، ذلك المكان الذي نادراً ما يطل في الأدب العربي في مصر.ولكن هذا ليس مناط الاهتمام الوحيد، فهناك أيضاً المرحلة الزمنية التي تحدث فيها وقائع الرواية، فهي تدور في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى وجه التحديد بعد هزيمة عرابي واحتلال الانجليز لمصر.

في هذا الصدد يقول بهاء طاهر: كما أقول في مقدمة الرواية فإن ما اجتذبني إلى سيوه هو محمود عزمي، مأمور سيوة، الذي قام بنسف معبد أم عبيدة في عام 1897، وقد حاولت فهم السر في قيامه بهذا، واكتشفت أنه من خلال الحكم بمفاهيم عصره، فلابد أنه قد عاش عبر الثورة العربية، وبالتالي فقد تأثر بها. وهذه هي الواقعة التي بنيت قصتي حولها، وهذا هو السر في أنني أقول إن محمود عزمي الحقيقي ليس موجوداً «في الرواية».

إذا انتقلنا إلى العنصر الثالث الداعي إلى الاهتمام الاستثنائي بهذه الرواية لوجدنا أنه يتمثل في القالب الذي أفرغت فيه الرواية، فهي مكتوبة في صورة سلاسل من الصور الناطقة بضمير الأنا والتي تنتقل من شخصية إلى أخرى، وبصفة خاصة تروى على لسان محمود عزمي عبدالظاهر، زوجته الإيرلندية كاثرين، الشيخ صابر، أحد شيوخ قبائل سيوه، الشيخ يحيى الزعيم الروحي المستنير، وأخيراً الاسكندر الأكبر الذي يعد معبده أحد العناصر الرئيسية في الرواية.

ومن المهم عند هذا المنعطف أن نتوقف عند ما يقوله بهاء طاهر عن الموضوعات المدرجة في الرواية، فهو يقول: الموضوعات هي الوحدات الأساسية لهذه الرواية، والاسكندر الأكبر هو واحد من أهم الموضوعات في الكتابة، لأنه عندما يتحدث، فإنه يتصرف كمرآة، حيث تنعكس أمور كثيرة على صقاله. وبعض الناس لا يمكنهم إدراك هذا، وقد كتبوا يقولون ان الاسكندر لم يكن ضرورياً في الرواية، وقالوا ان وجود يقطع خط السرد.

ولكنني عندما أكتب رواية فإنني لا أكتب قصة، فالرواية هي عالم معقد. وفي كتابي (في مديح الرواية) أقول إن الرواية تمثيل رؤية للعالم، هي رؤية الروائي للمجتمع المفرد والأسئلة الميتافيزيقية التي يطرحها إنسان ما. وهذا هو ما تقوم به الرواية العظمية، أما الرواية الأخرى فإنها تقرأ للتسلية، والقراء الحقيقيون من كاتبهم أن يحكي لهم قصة .

بهذا المعنى فإننا قد نستطيع أن نرى في المأمور محمد عزمي، الغاضب والمهزوم، رمزاً للمثقف العربي، أو هذا هو على الأقل ما يقوله النقاد.

ويعقب بهاء طاهر على ذلك بالقول: إنني لن أعترض على هذا الافتراض، لن أقول لا، فهو ربما يعبر عن احباطات المثقف العربي على امتداد قرنين من الزمان وجيل 1952 يعيش الغضب نفسه الذي عصف بمحمود، ولكنني آمل ألا يعبروا عنه على نحو ما عبر عنه هو .

ومن ناحية أخرى فإن زوجته الإيرلندية، كاثرين، هي رمز للمستشرق المفعم بالازدراء، وهي مليئة بالانتقادات، وتقول إن والدها علمها حب الشرق، ولكن ليس حب أهل الشرق، وهي تتعالى على المصريين، بالطريقة نفسها التي ينظر بها كثير من الغربيين إلى الشرق، ولكن هذه هي رؤيتهم للعالم الثالث بأسره.

ومن خلال الرواية يطرح المؤلف الأمل بأنه من خلال تحقيقنا للقوة فإن بمقدورنا أن نغير الأشياء من حولنا.

غير أنه ما من قراءة لهذه الرواية يمكن لها أن تتكامل إلا أطللنا على عدة شخصيات، ربما كانت أقل أهمية من محمود وكاثرين، إلا أن لها حضورها القوي.

في مقدمة هذه الشخصيات مليكة، الفتاة التي تزوجت شخصاً لا يقدر على أداء واجباته الشرعية نحوها ثم ترملت من بعده وصارت.. غولة، ثم ما تلبث أن تموت قتيلة تاركة تياراً من تأنيب الضمير يدفع باتجاه الوصول بالرواية للنهاية.

هناك أيضاً وصفي، الشركي الذي جاء إلى الواحة ليعمل مساعداً لمحمود، ولكننا نكتشف أنه جاء عيناً عليه. وهناك أيضاً فيونا، أخت كاثرين، التي تتقرب من أهل الواحة، ومن ثم فإنهم يبادلونها حباً بحب، خلافاً لمشاعرهم نحو كاثرين.

ونحن نلتقي أيضاً مع الشيخ يحيى حكيم الواحة، وصابر، ثعبان الواحة، الذي يجسد لنا كيف يفكر الأشرار في مجتمع فاسد يفتقر إلى التعليم وكيف يستغل الإنسان كل شيء لصالحه في تطبيق مباشر لمقولة الغاية تبرر الوسيلة.

وعلى الرغم من إجماع النقاد على الإشادة بـ «واحة الغروب» إلا أن ذلك لا يعني أنها تخلو من العيوب، فالبعض قد يتوقف طويلاً عند خروج محمود عزمي مندفعاً من منزله ليدمر المعبد الذي يرى فيه رمزاً لمشكلات الواحة، ومن ثم يلقى حتفه منتحراً.

التساؤل هنا هو: إلى أي حد يعد هذا الخروج من الدار وكل النتائج المأساوية التي تتبعه مبرراً، إلى أي حد تم التمهيد له درامياً بقلم المؤلف الذي عمل طويلاً بتدريس مادة الدراما؟ ما هو السبب الذي يجعل محمود يبادر إلى هذا الخروج الكارثي؟

إن السبب ـ على نحو ما يقدم لنا في الرواية ـ هو حدث بسيط، لا يعدو أن يكون خلافاً في الرأي بين فيونا العليلة وبين كاثرين، مما يؤدي إلى فقدان فيونا للوعي وأسف كاثرين، لكن محمود الذي نعرف أنه وقع في حب فيونا يغضب ويخرج مندفعاً إلى المعبد وسلسلة النتائج الكارثية المترتبة على الخروج.

أياً كان الأمر، فإننا أمام رواية من طراز رفيع، تستحق عن جدارة الفوز بالدورة الأولى للجائزة العتيدة، وتستحق أكثر من هذا، تستحق الجائزة الكبرى.

اهتمام قطاعات أوسع من القراء الذي يشعرون بالتعاسة والإحباط حيال التردي السريع والمروع فيما يقدم على ساحة الرواية العربية حالياً، ويتطلعون إلى أدب راق يعبر عنهم وعن عالمهم الحافل بما يستحق أن يروى.

الكتاب: واحة الغروب

تأليف: بهاء طاهر

الناشر: الشروق القاهرة 2007

الصفحات: 330صفحة

القطع: المتوسط

الأكثر مشاركة