قصر فيرساي.. جماليات حدائق الزهور ونافورات المياه

أصبح قصر فيرساي رمزا لفرنسا وواحدا من أهم المعالم الأثرية التي أدرجته منظمة اليونسكو في قائمة التراث العالمي الذي يجب المحافظة عليه لما يحتويه من لوحات نادرة وقطع تحفية وأثاث ملكية لا نظير لها في الكون.

توارث القصر المهندسون المختصون بتسيير النافورات جيلا بعد جيل على مدى ثلاثة قرون لمعرفتهم في تنظيم وتشغيل المضخات الآلية أي أنها أصبحت جزءا من تقاليد المعرفة. كل شيء يسير في نافورات فيرساي بشكل عجيب كأنما تنظمها جيوش سرية كامنة في جوف القنوات.على مبعدة 24 كيلومتر من العاصمة الفرنسية باريس يقع قصر فيرساي الذي شهد على أهم الأحداث التاريخية التي مرّت بها فرنسا. ما الذي دفع لويس الـ 14 الملقب بـ «ملك الشمس» إلى بناء هذا القصر المترامي الأطراف؟البعض يقول إنه كان مصابا بجنون العظمة عندما أقدم على وضع اللبنة الأولى لتشييد لهذا القصر لأنه كان متيقظا لاحتمال تمرد باريس وحشودها ـ .

وقد تمردت بالفعل لإشعال فتيل الثورة على الملكية في عام 1871 ـ. لكنه لم يكن مجنوناً لهذه الدرجة بل حكيماً لأنه كان يريد إبقاء النبلاء تحت هيمنته كي لا يثيروا الشغب والمتاعب لذا فكر بحبسهم في قصر فيرساي وتركهم يتنازعون على حقوق وامتيازات تافهة لا طائل منها كخدمة جلالته في النهوض صباحا أو تقديم حفلات ساهرة له أو حمل الهدايا إليه. هذا فيما عدا هدفه في تأسيس مقر للأسرة الملكية الفرنسية.وإلى جانب قصر فيرساي يوجد قصر صغير يدعى «غران نريانون» استعمله لويس الـ 14 للمناسبات التي رغب فيها بالابتعاد عن القصر. بالإضافة إلى قصر «هامو» أي القرية الصغيرة مع المزرعة المصغرة حيث اشتهرت ماري أنطوانيت بقضاء حياة بسيطة فيه.

التاريخ يولد في الغرف لم يكن «قصر فيرساي» سوى مكانا لانطلاق حملات الصيد الملكية في عهد لويس الـ 12 إلا أن لويس الـ 14 قرر لأسباب سياسية هجر باريس وتحويله إلى هذا القصر الشهير. وقد قام المهندس لوفو في عام 1668 بمضاعفة هذه المساحة. ولم يتوقف القصر عند هذا الحد بل استمرت فيه عمليات التوسيع لفترة طويلة تحت إشراف عدد من المهندسين في عهود ملوك آخرين. بعد نشوب الثورة الفرنسية 1789 اضطرت الأسرة المالكة العودة إلى باريس إثر سقوط القصر وتم إهماله مما للسلب والنهب وفقدان بعض من تحفه الفنية. وبقي على هذه الحال إلى أن قرر لويس فيليب في عام 1837 صيانته وتحويله إلى متحف للتاريخ الفرنسي. وفي الحقيقة أن لويس الـ 13 كان يرغب بتحويل أراضى الصيد المفضلة لديه إلى منزل هادئ ومتواضع إلا أن ابنه ووريثه أي لويس الـ 14 كان يسعى إلى تجسد عظمته من خلال بناء قصر مهيب مزين بالقراميد والرخام والذهب والكريستال.

ويشغل متحف التاريخ 11 قاعة مخصصة للويس الـ 12 وال 14 بالإضافة إلى الأوبرا التي بُنيت خصيصا بمناسبة زواج لويس الـ 16 بماري أنطوانيت مع كنيسة جميلة. كما يضم عددا من الصالونات الضخمة الفخمة كصالون هرقل وشقة الملكة التي تضم 6 صالونات.

وفيه أيضاً ممر المرايا الذي تم تنفيذه عام 1678 والذي يعتبر تحفة فنية رائعة الجمال ويبلغ طوله 75 مترا وعرضه 10 أمتار وتزين جدرانه لوحات تمثل الانتصارات الفرنسية وهو يضم 17 نافذة مطلة على الحديقة ـ كل نافذة بمواجهة مرآة «في حين كانت إضاءته تتم أيام لويس الرابع عشر بـ 3 آلاف شمعة.

ومن أهم ما يضمه القصر الكنيسة الملكية وهي عبارة عن جوهرة من الطراز الباروكي إضافة إلى الجناح الرسمي الذي استعمله لويس الـ 14 للهو والتسلية وصالة «ديان» التي كان يلعب فيها البليارد. ويشتمل القصر أيضاً على المرايا البراقة التي بُنيت لتعكس غروب الشمس على 17 لوحة من المرايا. كما تحتوي الباحة الرخامية المزينة على 48 تمثالا نصفيا من الرخام. أما غرفة نوم الملكة فقد شهدت ولادة 19 طفلا ملكيا.

رؤية الزهور حق حصري

إن قصر فيرساي مبني على تلة أضيفت إليها كميات كبيرة من التربة لتوسيع مساحتها وجهزت بمليون ونصف مليون نبتة، يتم جلبها من مزهريات يتم تجديدها وإبدالها حوالي 15 مرة في السنة. حدائق فيرساي هي إحدى إبداعات المهندس المعماري «لنوتر» ، فالشرفة والأراضي المحيطة بها تضفي ثراء مذهلا على واجهة القصر الملكي بينما تخفي المدينة عن الأنظار.

ومن القصر، يشطر منظر البسطة الخضراء الممتدة من القنال الكبير إلى قسمين في الوسط ويمتد هذا المشهد حتى الأفق. ومن أجل حماية المنتزه من الرياح الشمالية الباردة، تنتشر غابات صغيرة بينما يتمكن للمرء في الجنوب أن يرى التلال المجاورة. الممرات الحالية مزروعة بأشجار تؤلف أغصانها قبة كبيرة كانت في مكشوفة على السماء في البداية. ولم تكن في ذلك الوقت تتراصف حول الممرات بل توجد في الخلفية.

لذلك لم تكن ظلالها تصل إلى التماثيل القريبة. ولم يسبق للملك لويس الـ 14 ولويس الـ 15 أن يتدخلا في تشكيل طراز هذه الحدائق. بيد أن لويس الـ 16 أمر في عام 1776 بتغيير كل شيء وزرع نباتات جديدة بدلا من النباتات القديمة وجرى تبديلها من جديد في كل مرة.

وهل كان يتخيل ملوك ذلك الزمان أن يختار البستانيون الفقراء أنفسهم الزهور والنباتات بعد أن كانت حصراً على أذواق الملوك والأمراء وتطأ أقدام «العامة» أرضها؟

كانت نوعية الزهور والنباتات لا تقرر إلا بأوامر الملك العليا لأنه كان يعتقد أنه صاحب الذوق الوحيد. وكان حتى سكان المناطق المحيطة بباريس وفيرساي بعيدين عن هذا الاستعراض بل كانوا يتناقلون أخبار النافورات وينسجون حولها الأساطير حتى أصبحت نوعا من الحلم. كان ملوك فرنسا يتسابقون في تجميل منتزهاتهم وحدائقهم ومنتجعاتهم «المحرمة»، يبعثون في طلب أنواع الزهور حتى لو كانت مجهولة ونادرة وتنبت في البراري أو في أقصى البلدان بل كانت رغباتهم تصل إلى حد امتلاك الزهور النابتة في أعماق البحار.

إن الأوراق العذراء لأشجار متنزهات القصر تحمل مع قطرات الندى الليلي كل أسرارهم ومواعيدهم السرية في الليل عندما يهجع الحرس في نوم عميق، تتناقلها الأوراق وتلفها في طياتها عندما تجف في فصل الصيف.

وتعود الأوراق الجديدة النضرة تحمل تلك الأسرار إلى أن تذبل وتموت. كانت فرنسا بأكملها حقلا لزراعة وتجريب شتى أنواع الزهور، تجار الزهور كانوا يعرضون على «ملك الشمس» كافة أنواع الزهور، تجرها خيول ناعسة في الفجر باتجاه القصر لكنها كانت تنتظر ساعات طويلة إلى أن يستيقظ الملك، ويلقي نظرته الأبدية من الشرفة، يهّز رأسه موافقا على أنواع الزهور.

قنوات النافورات

إن نوا فير حدائق فيرساي ذائعة الصيت في جميع أنحاء العالم. وكثيرا ما ينتظر المشاهدون بداية الشلالات المائية على السطيحة التي تشرف على حوض «لاتون» ومن ثم يتبعون الممرات المؤدية إلى مجموعة الغابات الصغيرة المختلفة حتى يصلوا في نهاية الاستعراض الذي يقام في أحواض «نبتون» و «التنين» التي يبلغ ارتفاعها 42 متراً.

وهناك 99 نافورة مائية. وهذان الحوضان الكبيران يعكسان خطوط القصر المهيبة وتتصل في حوافها تماثيل ترمز إلى أنهار فرنسا وروافدها. وبجانبها تماثيل أطفال تفصل بينها حوريات الماء.

وقد قام بنحت هذه التماثيل التحفية من البرونز الأخوة «كيلر». وتقود أدراج ضخمة من الحوضين في الأعلى إلى حوض «لاتون»، مرصوفة بنسخ من تماثيل عتيقة. ومن قمة الدرج يمكن رؤية الحدائق ومحور الشمس. وكان يطلق على هاتين النافورتين اسم «دواليب الحيوانات» بسبب تماثيلها البرونزية التي تمثل كلابا تقاتل حيوانات متوحشة. وتسمى الآن نافورة الفجر.

وفي عام 1664 تم تكليف الفنانين لتنفيذ هذه التماثيل إضافة إلى تصميم 30 منحوتا رخاميا آخر، منها 24 منحوتة مقسمة إلى ستة موضوعات منها العناصر الأربعة وساعات النهار الأربع والعشرين والقصائد الأربع وأجزاء العالم الأربعة إلا أن هذه التماثيل لم تنصب واستعيض عنها بفكرة حوض الماء والتماثيل البرونزية.

ويتكون القنال الكبير من ذراعين هو المحرك الرئيسي لكل النافورات المنتشرة في الحدائق، طوله 1650 مترا وعرضه 62 مترا. ومنذ تأسيسه عام 1668 يعمل هذا القنال حتى يومنا هذا، وهو يستقبل المياه المتدفقة من مجاري المياه الخاصة. أما احتفالات النافورات الليلية فتنفذ من خلال مضخات مائية خاصة في القنال الكبير. بعد ذلك تقوم بدورتها لتعود إلى القنال الكبير ثانية وتصل قدرة تدفق المياه إلى 360 مترا مكعبا في الساعة.

الترميم والصيانة

في عام 1962، جلب لويس الـ 14 نحو 30 ألف عامل وفني من أجل صياغة الديكورات الداخلية. هوبير آستيير، رئيس المتحف ومقاطعة فيرساي يؤكد على ضرورة مواجهة هذا التردي الذي شهده هذا القصر. ومن خلال الأعلام والتوعية ازداد الاهتمام بترميم القصر. وفي عام 2003 تم إدراج 25 حملة من حملات الترميم بلغ تكاليفها 58 مليون يورو.

وتشمل هذه الترميمات 11 هكتارا من الحدائق و 2153 نافذة و 67 سلما ومدرجا و 6300 لوحة فينة و 5000 قطعة فنية و 2100 منحوتة. وهو حجم هائل يتطلب جهود آلاف العمال والفنانين. جاءت معظم الأرصدة من الأشخاص والشركات والبنوك والجمعيات حيث تم توفير نحو 10 مليون يورو لهذا الغرض. وتم إدراجه إلى قائمة اليونسكو ضمن التراث العالمي واستغرقت عمليات الترميم نحو خمسة أعوام.

مؤسسات تتسابق إلى الترميم

قام البنك الوطني الباريسي بترميم لوحتي «العشاء عند سيمون» لفيرونيس وسقف هيرقل الذي رسمه الفنان ليموان كما تم ترميم سقف صالون النبلاء حيث كانت تستقبل فيه ملكة فرنسا زوارها الرسميين وهو يتكون من تشكيلات ورموز الميثولوجيا اليونانية، وتعتبر من أفضل الديكورات التي قام بتنفيذها لويس الرابع عشر. ولم تتوقف عمليات الترميم على فرنسا، بل قدمت «جمعية الميسيسيبي للتبادل الثقافي الدولي» 34 مليون يورو لهذا الغرض.

شاكر نوري

الأكثر مشاركة