لم يكن الفيلسوف جان بول سارتر بالنسبة لسيمون دي بوفوار سوى رفيق درب، تربطها به علاقة فكرية.. قصة حب لا مثيل لها في تاريخ الآداب العالمية. ومن أجل ذلك، قصدت الولايات المتحدة من أجل أن تلقي سلسلة من المحاضرات طيلة خمسة أشهر أمضتها في «المنفى» بعيدا عن جادة السان جيرمان ومقاهيها الأدبية الشهيرة «لي فلور» و«دي ماغو» و«ليب».

عبرت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار، صاحبة كتاب «الجنس الآخر» الشهير عن هذا الحب من خلال كتابة 304 رسائل حب إلى نيلسون اليغرين باللغة الإنجليزية، ترجمتها إلى الفرنسية سيلفي لي بون دي بوفوار، الصادرة عن منشورات غاليمار بعنوان «حب عابر للمحيطات»: رسائل إلى نيلسون اليغرين 1947 ر- 1964 . والتي تشهد على هذا الحب العاصف. وأصبح مؤلف كتاب «الحياة في الجانب الوحشي» الحب الكبير في حياتها لسنوات طويلة رغم ما يفصل بينهما وهو المحيط الأطلسي ولم يتمكنا من الالتقاء إلا مرة أو مرتين في السنة.

ولكن ما يؤسف له أن هذه الرسائل تبقى ناقصة بسبب عدم نشر رسائل الطرف الآخر في هذا الحب أي رسائل نيلسون اليغرين حيث أن الناشر الأميركي اعترض على نشر رسائل العاشقين مع بعضهما على الرغم من أن المترجمة تمكنت من الاطلاع عليها وترجمة بعض الرسائل إلى الفرنسية.

حب يشبه ما يدور في الروايات

إن ما جرى بين سيمون دي بوفوار ونيلسون اليغرين يشبه ما يدور في الروايات. جرى ذلك في عام 1947 في شيكاغو عندما كانت سيمون دي بوفوار في التاسعة والثلاثين من عمرها وكانت مع سارتر تشكل ثنائيا فكريا قل نظيره في تاريخ الأدب. وكانت ترأس تحرير مجلة «الأزمنة الحديثة» ولكن رواياتها لم تكن تصدر بعد مثل «المثقفون» و«الجنس الآخر» و«وقوة الأشياء» ولكنها لم تصدر إلا بعد هذا اللقاء العاشق. في عام 1947 كانت سيمون دي بوفوار قد ذهبت إلى الولايات المتحدة بدعوة من الجامعات الأميركية حيث أقامت هناك في يناير حتى مايو .

وفي شهر فبراير ذهبت إلى نيويورك، إحدى صديقات نيلسون اليغرين، تدعى ماري غولدستين، اقترحت عليها المرور بشيكاغو وهناك تعرفت عليه. وهناك يصحبها إلى أعماق المدينة وحاناتها والحي البولوني فيها، ومن ثم تستقل القطار إلى لوس أنجلوس. وكان هذا ال«شيكاغوي» ? نسبة إلى شيكاغو ? يسكن في الحي البولوني، وهو من أبأس الأحياء.

هكذا وقعت سيمون دي بوفوار في حب نيلسون اليغرين، وهو شاب أشقر، طويل القامة، بعينين زرقاوين، سحنته تشبه الرجل السويدي، وهو مؤلف رواية «صحراء النيون» التي لم تقرأها سيمون دي بوفوار ولا تعرف عوالمها من بؤس الشوارع ومعارك حلبات الملاكمة وفتيات الليل. ويبدو أن نيلسون اليغرين لم يكن متحمسا للقاء هذه المثقفة الفرنسية. ولكن وكما يبدو أن هذا الكاتب، المضاد لسارتر في أفكاره، وبهيبته الجسمانية تمكن من غزو قلب سيمون دي بوفوار في لحظات ضئيلة.

وفي المساء ذاته ولدت بينهما علاقة عاطفية. وقد أعجبت بطريقة حياة العزوبية التي يعيشها نيلسون اليغرين، وأسلوب الانتقال من حانة إلى أخرى. وهكذا بدأت أول خيوط الحب تنسج في قلبيهما ولكن هذا الحب كان جميلا وحزينا في آن واحد ترك آثاره على الكاتبين .. لذلك كانت تكتب له كل الأحداث التي تعيشها وتحسها ولا يمضي يوم أو ليلة إلا وتفكر به.

وكانت في مرات تطلق عليه «زوجي العزيز». ومن الواضح أن سارتر لم يكن بالنسبة إليها زوجا بل رفيق درب وصديقا وكانت بينهما علاقات لم يكن أي شيء قادر على تحطيمها ألا وهي العلاقة الفكرية التي تتضمن الإعجاب والصداقة والفهم المتبادل والتواطؤ. وكانت تكتب لنيلسون اليغرين قائلة له «سوف لن ننفصل عن بعضنا. أنني زوجتك دائما».

شخصية باردة.. تكتب في لهيب العواطف

والمعروف أن لهذه المرأة قلما «جافا» وتتمتع بسمعة أنها باردة العواطف ومثقفة وذهنية ونسوية في نهاية المطاف. ولكنها في حبها لنيلسون اليغرين تكتب وكأنها فتاة شابة عاشقة عبارات مثل «حبيبي.. ليلا ونهارا، أشعر باني مغلفة بحبك، انه يحميني من كل الشرور. عندما تكون الدنيا ساخنة فإن حبك ينعشني وعندما تهب الرياح الباردة فهو يدفئني. وطالما تحبني فإنني لا اشعر بأان الشيخوخة ستصلني ولن أموت».

وهناك مقطع آخر تقول فيه:

«نيلسون، يا نيلسوني، إنني أحبك ... وأقبلك يا عزيزي مرارا. إنني افتقدك بحرارة كل يوم بل افتقدك في جميع الأيام حتى عندما أكون معك». هذه الرسالة ورسائل أخرى تكشف لنا عن امرأة متطلبة ولكنها في الوقت ذاته تكشف عن الاضطراب والقلق الذي تعاني منهما. إنها لوحة مثيرة قد تصحح لنا تلك الصورة النمطية التي تلقيناها عن هذه الكاتبة بل ان هذه الرسائل تكشف عن امرأة حساسة وكريمة أكثر من الصورة الأسطورية التي تكونت عبر كتاباتها وليست امرأة عنيفة بل طموحة وعقلانية وتسيطر على عواطفها ورغباتها. امرأة جريحة في صباها وتحب الحياة بعنف.

هل كان نيلسون اليغرين يرغب الزواج منها ؟

يقول لها في إحدى رسائله:

«في أحضانك عرفت الحب الحقيقي الشامل، الحب الذي لا ينفصل فيه القلب ولا الروح ولا الجسد بل يشكلون وحدة». ولكنها رفضت التخلي عن سارتر بل كانت تعتبره عائلتها الوحيدة. لم تكن قادرة على التخلي عنه والعيش مع نيلسون اليغرين. وإذا كانت لا تزال تحمل الخاتم الفضي الذي أهداه لها حبيبها الأميركي أثناء مرورها في شيكاغو، فهي توافق على أن يتركها ولكنه لا يتحمل أن يترك المرأة التي أحبها وأكثر من ذلك أن تشارك حياتها مع فيلسوف وجودي تعترف له وبجرأة وإخلاص عن عدم قدرتها عن التخلي عنه. وهو يعرف حق المعرفة ما اعترفت به «منذ زمن طويل، امتزج وجودنا سويا... وانني مرتبطة به». كتاب الرسائل الحالي للكاتبة الشهيرة سيمون دي بوفوار ... رحلة ممتعة في الزمن والأحاسيس.

رسائل ضد النمطية

عملت هذه الرسائل على تحرير الأذهان من الصورة النمطية «والكليشهات» والقوالب الجاهزة التي فرضت من صاحبة «المثقفون» و«الجنس الآخر» و«قوة الأشياء» كانت امرأة جامدة لا تعرف سوى النظريات الرمادية، وهي كانت امرأة تفتقر إلى العواطف والأحاسيس، مستلبة، فيلسوفة، وقبيحة الشكل ولكن كتابها «الحب العابر للمحيطات» هدّم أركان هذه الصورة من خلال 600 صفحة تلتهب بالحنين والعاطفة والسعادة.

قبل خمسين عاما، بدأت قصة الحب هذه وما تزال أسرارها مغلقة، تلك هي الحياة الداخلية التي لا يمكن اختزالها أو اختصارها في كلمات أو ملخصات عابرة. ولعل أهمية هذا الحب لا يقتصر على الرسائل الغرامية فقط لأنها تلخص لنا تفاصيل الحياة الثقافية في باريس. وقد كتبت الفيلسوفة الفرنسية هذه الرسائل باللغة الإنجليزية لأن عاشقها نيلسون اليغرين لم يكن يجيد اللغة الفرنسية.

وظلت الفيلسوفة الوجودية الفرنسية تراسله من عام 1947 حتى عام 1964 وقد احتفظ اليغرين بهذه الرسائل في أرشيفه في جامعة كولومبيا في أوهايو. كما أنها حافظت على آثار حبيبها الأميركي مما سمح لوريثتها سيلفي لي بون درفبوفوار أن تجمع هذه الرسائل وتترجمها إلى الفرنسية. وتقدم جانبا من التاريخ السري العاطفي لهذه السيدة التي لم نكن نعرف عن حياتها العاطفية الداخلية إلا الجزء اليسير . ومن خلال ترجمة إحدى قريبات الفيلسوفة نتعرف على جملها وعباراتها وكلماتها التي اشتهرت بها، وعلى الخصوص الإيقاع وروح الفكاهة التي تميزها. ولم يكن ذلك ليظهر لولا هذه الترجمة الوفية للنص ولروح الكاتبة.

علاقة عاطفية دامت 17 عاماً

على أية حال، هذه المراسلات تشهد بشكل لا يقبل الجدل على حب حقيقي بينهما، وعلاقة دامت 17 عاما على الرغم من هذا المحيط الصاخب الذي يفصل بينهما. ولم يكن اليغرين يتحمل أن ترفض سيمون دي بوفوار البقاء بجواره كما ترفض أن تتزوج منه أيضا رغم عدم انقطاع مراسلاتهما. وقد جاء نيلسون أليغرين إلى أوروبا في عام 1960 وقاما بسفرة سويا من جديد كما في إقامته الأولى في عام 1949 ومن بعد ذلك لم يعد يرى أحدهما الآخر.

تقول سيمون دي بوفوار: «إنك أوقعتني في شباكك، انني احبك ... »، هكذا تعترف الفيلسوفة الفرنسية. وهي تريد أن تكون قريبة من الجسد «الساخن والمريح» لعشيقها «الكروكوديل» أي التمساح كما تسميه. وكانت سيمون دي بوفوار تعرف منذ البداية أنها في خطر فقدانه عندما أكد لها نيلسون اليغرين أنه يفهم اختياراتها وطريقة حياتها وارتباطها بسارتر وفرنسا وعملها ككاتبة. كما يدرك هو أيضا بأنه لا بد أن يعود إلى شيكاغو ويجلس إلى الآلة الكاتبة.

وكان السؤال الذي يؤرقها هو: لا يمكن أن تمنح جزءا من ذاتها دون أن تكون على استعداد على منح ذاتها بكاملها؟

كانت تعرف الجواب جيدا وهو كالتالي: «لا أستطيع أن أعيش فقط من السعادة والحب ولا أستطيع أن أتخلى عن الكتابة والعمل في المكان الوحيد في العالم حيث تكون لكتبي وعمل معنى ما».

كانت تريد أن تحب هذا الرجل عن بعد. والحب عن بعد له وجود أيضا بالنسبة لامرأة حرة، وحيدة، فوضوية، بوهيمية نوعا ما ترفض الزواج والأمومة وتقضي نهارها في المقهى بكتابة روايات «فاسقة» ومقالات تبشر فيها بالتمرد والثورة دون أن تحولها عن مهمتها اغواءات الزواج والمهنة والطبقة وغيرها من مغريات المجتمع البورجوازي.

لم تكتف بان تعيش في كنف سارتر دون أن تنتج هي أعمالها. لقد عاشت هذه الفيلسوفة عصر السنوات المجنونة ما بين الحربين. وقصة حبها الحقيقية مع نيلسون الغرين وجدت صداها في رواياتها ولكن هذه التجربة تضمنت المعاني الفلسفية لحياتها وشخصياتها الروائية في آن واحد. وعلاقتها تختصر: ميتة تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تؤمن بالجنة. وميتة تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تعتقد بخلود الكتب والأفكار والرجل الذي تحبه. ميتة تلك المرأة الشابة التي كانت تتنزه مفعمة في عالم موعود بالسعادة.

لا نولد نساء بل نصبح نساء

الخاص يرتبط بالعام عند سيمون دي بوفوار التي تخلت عن مشروعها الشخصي من أجل أن تعتني بالأوضاع النسوية بصورة عامة وذلك في كتابها الشهير «قوة الأشياء». وقد اختصرت ذلك من خلال العبارة التالية «لا نولد نساء بل نصبح نساء»، بهذه الصيغة المنطقية شاركت الفيلسوف جان بول سارتر أفكاره الوجودية.

كتابها «لجنس الآخر» فرض نفسه على العالم بكامله. وبهذا الكتاب فتحت أبواب الحرية أمام النساء . ولعل السؤال الذي طرحته سيمون دي بوفوار من خلال سلوكها كمفكرة وأديبة هو تقديم العنصر الأنثوي في الكتابة على أنه حالة خاصة مما قد يوقعها في فخ فيما بعد. هذه القاعدة الاستثنائية من الأنوثة التي تعتمد على تحليل المجتمع تحليلا خاصا.

وكان على سيمون دي بوفوار أن تشرح كل شيء لنيلسون اليغرين وكأنه آت من كوكب آخر. كان أحدهما يسير نحو الآخر وكأنهما يتبعان سنوات من الضوء وكلاهما يمارس الكتابة. وهذه علاقة قوية وعملية لا يمكن لأي منهما تجاهل ذلك. ولكن التباين بينهما كان صارخا سواء في وعيهما أو تفاصيل حياتهما اليومية والمعيشية وآمالهما في أفق الكتابة.

مات العشيقان دون أن يتزوجا

في عام 1965 صدرت الترجمة الإنجليزية لرواية «قوة الأشياء» ما جعلها تفكر بعلاقتها مع نيلسون اليغرين، ومعنى هذه العلاقة والآلام التي سببتها. وفي هذا الصدد تحذره «أتمنى ألا تزعجك المقاطع التي تخصك لأنني وضعت فيها كل عاطفتي وقلبي». ولكن ردة فعل نيلسون اليغرين كانت عنيفة وسحب تصريحاته المليئة بالحقد وبعدها خلد إلى الصمت حتى وفاته في عام 1981 في عزلة موحشة بحيث لم يهتم أحد بتشييعه.

هذه الرواية كانت بمثابة القطيعة بينهما، وكانت سيمون دي بوفوار وسارتر يزمعان السفر إلى الولايات المتحدة في عام 1965 لكن حرب فيتنام حالت دون ذلك. ومن ثم علمت سيمون دي بوفوار بدهشة كبيرة بأنه لم يحرق رسائلها وكانت قبل وفاتها اهتمت شخصيا بهذه المراسلات ولكن الوقت لم يمهلها للقيام بذلك. في رسالتها المرقمة 304 تتألم الفيلسوفة الفرنسية من تخلي نيلسون اليغرين عنها وعدم الكتابة إليها ولكنها تتحدث عن نحول جسده إثر «الريجيم». وفي النهاية عبّرت عن قلقها على أناقته بدون تواجدها معه، وتعلن له عن حبها الكبير. مات الحبيبان دون أن يتزوج أي منهما ... لم يتركا أطفالاً بل كتباً تحمل آلامهما وآلام الآخرين.

بين سارتر واليغرين

تتحدث سيمون دي بوفوار في إحدى رسائلها إلى نيلسون عن سارتر تقول فيها: «إنني صديقته الحقيقية الوحيدة التي تفهمه وتمنحه السلام والتوازن ... لا أستطيع التخلي عنه بتاتا. وقد أتخلى عنه لفترات طويلة أو قصيرة ولكن لا أستطيع أن أكرس حياتي كاملة لرجل آخر».

تجسيد الحب

جسدت سيمون دي بوفوار في رواية «المثقفون»، فإنها طرحت شخصية لويس بروغين التي هي بشكل من الأشكال شخصية حبيبها نيلسون الغرين. ولو أن الرواية لا تعكس قصة تاريخنا الحقيقي وقمت بوصف رجل يجمع صفاتك نوعا ما وامرأة تشبهني قليلا». يذكر أن «المثقفون» حازت بها على جائزة غونكور المعروفة، التي تعتبر أرفع جائزة أدبية فرنسية في عام 1954.

رسائل اليغرين غير المنشورة

تم الحصول على رسائل نيلسون ألغرين أثناء بيعها في المزاد العلني وكانت دار النشر في نيتها نشر رسائل نيلسون اليغرين التي احتفظت بها سيمون ديبوفوار . وبعد انتظار دام سنة كاملة رفض الناشرون الأميركيون نشرها دون تبرير أو تفسير . وتؤكد معدة ومترجمة هذه المراسلات بأنه من المؤسف ألا تنشر رسائله فهي أكثر حرارة من سيرة ذاتية عادية.

شاكر نوري