الرجل الذي اخترع التاريخ

منذ البداية يؤكد جوستان ماروزي مؤلف كتاب «الرجل الذي اخترع التاريخ»، أن هيرودوت ليس مخترع التاريخ فقط ولكنه أكثر من ذلك. ولا يتردد في أن يلصق فيه أوصافا أخرى غير المؤرخ من بينها أنه رائد في ميدان الجغرافيا ومكتشف ودارس للثقافات المتعددة ورجل تنوير قبل أن تكون هذه الكلمة مستخدمة في القواميس.

هذا فضلا عن أنه مارس عمليا مهنة الصحافة وكان التاريخ الذي كتبه سلسلة من التحقيقات. ويطرح ماروزي العديد من التساؤلات حول سيرة حياة، وقبلها سيرة اكتشافات، هيرودوت. وفي المحصلة يمكن القول انه لا أحد يعرف بالدقة القاطعة إذا كان «المؤرخ الأول» قد زار فعلا «واحة سيوى» في مصر أو أنه قد زار بابل في العراق وغيرهما من الأماكن التي ذكرها في كتاباته عن التاريخ. بكل الحالات يدعو جوستان ماروزي القارئ إلى زيارة أماكن تاريخية كثيرة كان هيرودوت قد زارها أو كتب عنها. وهكذا يتحدث المؤلف أحيانا عن تركيا أو مصر أو العراق في الوقت الراهن بحيث «تختلط» حرب العراق اليوم مع تلك الحروب التي قامت قبل حوالي 25 قرنا بين أوروبا وإمبراطورية فارس القديمة.

ويقوم المؤلف فيما يشبه نوعا من «السياحة» إلى المدينة التي يتم اعتبارها مسقط رأس الرجل الذي اخترع التاريخ، أي بلدة «هاليكارناس» التي تدعى «بودروم» التركية اليوم. هذه البلدة التي يتم وصفها أحيانا أنها كانت أحد عجائب العالم القديم بروعة بنائها.

إن ما يفعله ماروزي هو نوع من محاولة إحياء الأجواء التي تصوّر أن هيرودوت قد عاش فيها وبالتالي حاول أن لا يقتفي آثار الرجل الذي اخترع التاريخ من خلال الأماكن التي زارها والدروب التي سلكها ولكن أيضا، وخاصة، عبر الأفكار التي كانت تدور في رأسه.

وإذا كان ماروزي حريصا على الالتزام بموقع المؤرخ، فإن اهتمامه لم ينصب فقط على الأحداث الكبرى التي تحدث عنها هيرودوت في كتاباته الرئيسية، ولكنه حرص أيضا على أن لا تكون مادته «جافة»، وهكذا يسرد الكثير من القصص والحكايات ووصف تلك العادات الغريبة التي كانت سائدة لدى مجتمعات الحقبة القديمة.

بل إن المؤلف «يتصوّر» ما كان يجري داخل الغرف الملكية ويناقش النظريات السياسية والفلسفية التي أحاطت ب«أسفار هيرودوت» وشكّلت نسيج التاريخ الذي كتبه. وهذا الخلط بين الحاضر كما تراه عين المؤرخ وبين الماضي عبر ما يتم رسمه من خلال عودة خاطفةـ فلاش باك-إلى الحقب القديمة وبين مسارات التاريخ التي عرفها هيرودوت والأساطير اليونانية، هو ـ أي الخلط- هو الذي يعطي الكتاب تميّزه و«خصوصيته».

ودون الذهاب بعيدا في التأكيد على «الدقة» التاريخية في كتابات هيرودوت، لا يتردد مؤلف هذا الكتاب في اعتبار أن تلك الكتابات شكّلت «الصفحة الأولى بكتابة التاريخ في العالم». ومن هنا يأتي عنوان «الرجل الذي اخترع التاريخ». ذلك بما مثّله عمل هيرودوت من إرساء لأسس كتابة التاريخ، خاصة عندما كرّس عمله لما سماه «الحروب الفارسية» ووصفه الدقيق لمعارك مثل «ماراتون» و«سالامين» بحيث بدا أن تلك الحروب أسست لبداية بروز الحضارة الغربية من جهة ولبداية نوع من المعارضة «التاريخية أيضا» بين الشرق والغرب.

وضمن هذا السياق يقدم المؤلف العديد من الحجج والبراهين على أن الكتابات التاريخية التي قدّمها هيرودوت تمثل «الملحمة الكبرى الأولى المكتوبة بالنثر في العالم»، ذلك أن الشعر كان هو عصب الملاحم الأخرى مثل ملحمة جلجامش، ومثل الالياذة والاوديسه لهوميروس.

بكل الحالات ينقل المؤلف عن هيرودوت تعريفه للتاريخ بالجملة التالية الموجودة في مطلع عمله «تاريخ هيرودوت» وجاء فيها: «يقدم هيرودوت المولود في هاليكارناس هنا نتائج تحقيقاته كي لا يزيل الزمن ذكريات أفعال البشر وكي لا يطوي النسيان الإنجازات الكبرى التي حققها الإغريق أو البرابرة، وهو يقدم تفسيره للأسباب التي دعت للحرب بين هذين الشعبين».

هكذا كان هيرودوت يضع البشر كلهم تحت خانة «الإغريق-اليونانيين القدامى» أو «البرابرة» الذين كانوا يعنون خاصة في قاموسه «الفرس» أو «الميديين»، كما كان يطلق عليهم.

الكتاب : الرجل الذي اخترع التاريخ

تأليف: جوستان ماروزي

الناشر: جون موراي ـ لندن- 2009

الصفحات: 352 صفحة

القطع: المتوسط

The man who invented history

Justin Marozzi

John Murray - London - 2009

.p 352

الأكثر مشاركة