قد يكون القلم من أقدم المخلوقات على وجه الحياة، بل من أولها قطعاً يوم كانت الحياة عماءً بتعبير المتصوفة، وكان الإنسان في حُجُب المجهول الإلهي، حيث جاء ذكر القلم في القرآن الكريم بطريقة القسم الرباني( نون والقلم وما يسطرون) وهذه أول إشارة لهذه الأداة التي رافقت الإنسان منذ الأزل بأشكالها المختلفة ؛ عندها كان الإنسان القديم الذي يجهل القراءة والكتابة يعبّر عن خلجات نفسه بطرق شتى، وقال تعالى في سورة العلق (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ويوم كانت البشرية الأولى تسعى في مفترق طرق الاكتشاف التدريجي لمساراتها المتقاطعة في بحثها عن الحقيقة المعقدة.
للقلم منظومات مجازية وواقعية، وهي منظومات تم التعارف عليها عبر تطور الثقافات والحضارات والآداب والفنون والسياسات العامة للشعوب . فتم أنسنة القلم لحاجات سياسية على الأغلب الأعم، ومن ثم وطنية وأدبية، لما للقلم من تواشج حميمي مع الحياة وتعاقب الحضارات الإنسانية . فهذا الكائن الصغير أدهش البشرية بقدرته على التدوين وأرشفة الحضارات والثقافات، فكان سجلاً أميناً لما تركه الأسلاف للمستقبل الذي حظيت كثيرٌ من الأجيال بتعقب ما تركه الماضي إلى الحاضر، ولا تزال العديد من المخطوطات والأثريات والرسومات البدائية والخطوط الغامضة تحتاج إلى مكتشفين ومعقبين واختصاصيين لحل الأثر تلو الأثر الذي كتبه القلم أو دونته الريشة أو خطّته قصبة صغيرة في يومٍ ما وزمنٍ ما وحضارةٍ ما . لذلك وُصف القلم بأنه مجموعة منظومات أخلاقية تم أنسنتها تعبيراً عن مختلف، فيها من المجاز ما هو قادر على أن يكون توصيفاً لحالة ما أو شخصية ما ؛ كأن نقول «قلم حر» وصفاً لكاتب غير انتهازي أو « قلم أجير» وهو الكاتب الذي يشيع حالة سلبية لغيره من منظمات سياسية أو غيرها . و» قلم وطني» وصفاً لكاتب يضع هموم وطنه في مداد حبره ويخط نشيد البقاء لذلك الوطن . وما إلى ذلك من تسميات وتوصيفات تؤكد قدرة القلم على النطق والاستنطاق.
تاريخية القلم .. الإصبع هو الأول في الكتابة!... فقد قادته الفطرة أن يؤرخ مشاهداته عبر خطوط ورسمات بدائية، وذلك بغمس أصابعه في دماء الحيوانات ليخط أو يرسم على الصخور وجدران الكهوف . فحلّت الدماء محل الحبر في تلك الأوقات الموغلة في القِدَم، وهذه البداية الدموية لها ما تؤكدها مكتشفات كهوف الصحراء الكبرى وأسبانيا وجنوبي فرنسا مثلاً . على أن حبر الدم هذا كان البداية الفطرية لمضي الإنسان نحو آفاق الاكتشافات المهمة التي توّج بها وجوده وخلوده الطويل في منظومة المجتمعات التي تواجد فيها . فمن الإصبع الأول تحول الإنسان إلى استعمال عيدان الخشب وريش الطيور كأقلام يغمسها في الأصباغ الملونة ليكتب أو يخط بها بديلاً عن أصابعه، فالطبيعة وفرت له ما هو مثالي نسبياً في حياة الغاب التي كان يعيشها تحت وطأة ظروف غاية في البدائية والفطرية.، وكانت هذه هي الخطوات الأولى للكتابة التي يقدرها العلماء على مايزيد على 35 ألف سنة، وسميت تلك الرسوم بالكتابة الصورية أو التصويرية كحالة تعبيرية أولية بديلاً للكتابة الحروفية التي لم تكن تُعرف بعد .
السومريون هم أول من اخترع قلم الكتابة في مطلع الألف الرابع قبل الميلاد، وكان القلم السومري عبارة عن عود من الخشب يكتب به على ألواح من الطين اللزج، ثم يجري تجفيف هذه الكتابة الطينية بوضع الألواح في الشمس وأطلق العلماء على هذه الكتابة اسم (الخط المسماري)؛ ثم استخدم السومريون القلم المدبب، وقد صنعوه من الاغصان الصغيرة للأشجار بعد تهذيبها وجعلها أقلاماً مناسبة للكتابة على ألواح الطين الطرية التي تجف فيما بعد، وكان ذلك حوالي إلى عام 3500 قبل الميلاد .
واقتبس المصريون القدماء أدوات مشابهة لذلك وصنعوا تلك الأقلام من نبات القصب، وكان ذلك منذ 5500 عام تقريبا .ومنذ ما يزيد على ثلاثين قرنا قدم الكنعانيون أول الأبجديات في التاريخ الإنساني بحسب خبراء الآثار، ومع انتشار الأبجدية تدرج التحسين في أدوات الكتابة من ريش الطيور والقصب إلى اختراع الريشة المعدنية ذات المسكة، وكان الرومان ومن قبلهم اليونان اتخذوا أقلامهم من ألواح خشبية ذات أسنان مدببة مغطاة بالشمع، وكذلك استخدام ريش الطيور في الكتابة في العصور الوسطى في الشرق والغرب.
واستخدم الاغريق في بلاد اليونان قديمآ ريش الطيور في الكتابة وذلك في عام 500 قبل الميلاد وادخل استخدام اقلام الريش إلى أوروبا، وصارت هذه الأقلام أدوات الكتابة في البلاد الإسلامية فيما بعد .واستمرت الريشة أداة للكتابة زمناً طويلاً حتى ابتكر البريطانيون الريشة المعدنية عام 1830 في مدينة برمنجهام التي عرفت لفترة طويلة فيما بعد كمهد لأدوات الكتابة وكان اقتصاد المدينة قائماً على صناعة الورق والأقلام بأنواعها المختلفة حتى وصل الأمر إلى صناعته نحو 4 آلاف موديل من ريشة الكتابة في منتصف القرن التاسع عشر ؛ ويقال إن الكيميائي العربي جابر بن حيان هو صاحب فكرة اختراع القلم الحبر ذي الخزان، ولكن الفكرة لم يكتب لها التحقيق في عصره.
وكانت هناك تجارب بدائية لصناعة مثل هذا القلم في الأندلس؛ كما اخترع العالم العربي عباس بن فرناس في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي قلم الحبر وكان على شكل اسطوانة تتغذى بحبر سائل يستخدم للكتابة، ثم أمر المعز لدين الله الفاطمي عام 365هـ -579م بصنع مثله ؛ بعدها صنع ابن صاعد الرحبي قلم الحبر السائل من أنبوب متخذ من الحديد، وجعل له من جسمه سنا مقطوطا ومشقوقا، وكان أنبوب هذا القلم يزود بالحبر من ذيله، وله غطاء حلزوني محكم، وكان ما به من حبر يكفي الكتبة والخطاطين للكتابة به لمدة شهر.
النون .. الدم الذي صار حبراً
النون هي الدواة كما وردت في القرآن الكريم . والدواة هي المحبرة في تسمياتنا الحديثة. وكان القلم يحتاج إلى هذه النون كي يتغذى من سائلها ليكتب أفكار غيره وخلجاته . لكن الحبر شأنه شأن أي اكتشاف حديث مر بمراحل وتحولات وصناعات حتى تعددت ألوانه ومنابعه، وأقدم حبر عرفه العالم كان الحبر الهندي أو الصيني وكان يصنع من السخام.
وقد عرف العرب الحبر كمداد للكتابة، وبخاصة على أوراق البردي والجلود إلى أن عرفوا الورق من الصين .وقد استخدم العرب عناصر مختلفة في صناعة الحبر، بعضها معدني كالزاج، وبعضها نباتي كالعفص . وكان العرب يعتمدون في صناعة الحبر على السخام الذي يتكون من احتراق النفط، أو من الزيوت والدهون النباتية كزيت الكتان.
وأحيانا كانت العناصر المستخدمة في الأحبار العربية تطبخ على النار فيغلي في الماء أو في ماء الآس ثم يضاف إليه الصمغ العربي والزاج القبرصي مع شيء من الدخان.
صناعة القلم .. تاريخ مشوق من الجمال
كانت الأقلام عند السومريين القدماء من أهل العراق من الحديد أو الخشب أو القصب ليضغط بها على الطين لرسم الخطوط المسمارية وفي مصر كتب الفراعنة على الأحجار بأقلام النحاس والحديد ونَقَشوا أدقَّ الصور وكتبوا على البردي بقلم البوص واستخدم العربُ في الجاهلية القلمَ في التدوين، واستخدم المسلمون لبّ الجريد الأخضر في صناعة الأقلام، كما كان استخدام القصب في صناعتها سائدًا لما له من مزايا، فالأقلام المصنوعة من القصب تظهر قواعد الخط وهي سهلة الاستعمال.
وقد تنوعت الأقلام عند المسلمين وبدأت هندسية الحروف ويقال إن الأقلام عند المسلمين انتهت إلى اثني عشر قلمًا منها: القلم الجليل، وهو أول ما ظهر في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية وكان يُستخدم في الكتابة في المحاريب وعلى أبواب المساجد وجدران القصور ونحوها، وهو ما يسمى الآن بالخط الجلي لأنه أكبر الأقلام وأوضحها، ومنها أيضًا الطومار وكان هذا القلم لتوقيع الخلفاء على التقاليد والمكاتبات والكتابة إلى السلاطين والعظماء.
وقلم مختصر الطومار وبين ثلثي الطومار، وكان لكتابة اعتماد الوزراء والنواب على المراسيم ولكتابة السجلات المصونة، وقلم الثلثين وكان يُستعمل للكتابة من الخلفاء إلى العمال والأمراء، وقلم المدور الصغير وكان لكتابة الدفاتر ونقل الحديث والشعر، وقلم العهود وكان لكتابة العهود والبيعات، وقلم غبار الحلبة وكان لكتابة بطائق الحمام الزاجل.وهناك أيضًا من أنواع الأقلام التي استخدمها وصنعها المسلمون قلم توقيع الإجازة وسمي بذلك لأن الخلفاء والوزراء يوقِّعون به.
وقلم الرقاع وهو من الأقلام القديمة التي استعملت في ديوان الإنشاء، وهناك قلم الثلث وهو ثلث الطومار واستُعمل لكتابة العنوان للكتب المؤلفة وأوائل القرآن الكريم وتقسيمات أجزاء الكتب وكتابة اللافتات التي يُكتب عليها أسماء أصحاب الحوانيت، وكذلك قلم النسخ، وسمِّي بذلك لأن الكتَّاب كانوا ينسخون به مؤلفاتهم، وقلم الرقعة، والقلم الفارسي وكتب به الخط التعليق.
الصناعة .. الباركر في جبهات القتال
أقلام الرصاص والحبر والجاف أنواع مختلفة، ولكن لهدف واحد هو الكتابة، وطيلة سنوات التجريب القديمة والى اليوم والأقلام تكتسب بداعة في تصاميمها الحديثة وصناعاتها ؛ وعادة ما نذهب إلى التاريخ لتتبع الأثر الصناعي ومحاولات العلماء في تقديم النافع للإنسان ؛ وهذا التاريخ سنُداخل فيه التواريخ والأسماء واختلاف الأقلام لأجل حصرها في زاوية الإبداع الواحد .
أرشيف التاريخ يحيلنا إلى عام 1880 حيث صنّع قلم الحبر لأول مرة وفي عام 1944 صنّع قلم الحبر الجاف .وهذا الأخير اخترعه المجري لاديسلاو جوزيف بيرو، أما الأشهر فهو لويس وترمان مخترع قلم الحبر الذي حمل اسمه ماركته الشهيرة ( وترمان) وصنّع وترمان أقلاماً عالية الجودة، متوازنة، مغطاة بالذهب والفضة. عندما اجتاحت الأقلام المدورة الرأس السوق بعد عام 1945 لم تفقد أقلام وترمان مكانتها بسبب جودتها العالية، فصارت تُستخدم لتوقيع العقود بخط جميل من دون ترك أي لطخة حبر على الورق، أما الفرنسي جاك كونتيه فقد اخترع قلم الرصاص .
شهدت صناعة الأقلام قفزة جديدة عندما اكتشف الجرافيت في مقاطعة يوركشاير البريطانية، وعرف العالم لأول مرة ما سُمي باسم (القلم الرصاص) رغم أن عنصر الرصاص لا يدخل في تركيبه على الإطلاق، وكانت القفزة الحقيقية في صناعة الأقلام من نصيب البريطانيين أيضاً، عندما تم ابتكار القلم الحبر بشكله التقليدي المعروف حاليا، أي القلم الذي به خزان يملأ بالحبر السائل، وكان ذلك عام 1864 .
وبدأت شركات كبرى تدخل مجال تصنيع الأقلام ومنها شركة (باركر) و(شيفر) و(وترمان) و( الإستبروك ) و ( التيكو) وغيرها من كبريات الشركات العالمية. وما يهم هنا القلم (باركر) ذائع الصيت الذين يسمونه (المصاص) ومخترعه « جورجي باركر» الذي كان يعمل مدرساً للتلغراف، وخلال الحرب العالمية الأولى عقدت الحكومة البريطانية مع ( باركر) صفقة كبيرة لتزويد الجنود البريطانيين المقاتلين بهذه الأقلام.
وقد اجتذب هذا القلم الأنيق بعض المؤسسات الدولية بينها الأمم المتحدة التي قررت توقيع جميع الاتفاقيات بواسطة هذا القلم، كما اتخذته قلعة ويندور الملكية لبريطانية قلماً رسمياً لها .
هناك تجارب أميركية أجريت في الخمسينات من القرن الماضي توصلت إلى اختراع الحبر الذي يجف بمجرد كتابته، وفي عام 1951 ظهر في أميركا قلم شهير باسم (باركر آيه) فكان التطور التقني الأخير في صناعة أقلام الحبر السائل التي سرعان ما تحولت بدورها إلى متحف التاريخ الحديث! فقد ظهر القلم الأكثر انتشاراً على مر العصور.
وهو قلم الحبر الجاف الذي ابتكره عالم أميركي من أصل فرنسي وبدأت شركة (رينولدز) تصنيعه على نطاق عالمي واسع في عام 1953، فأحدث على الفور انقلاباً في صناعة أدوات الكتابة، وتفوق هذا القلم الجاف على أقلام الحبر السائل. ولكن اليابانيين استطاعوا أن يقدموا للعالم في السبعينات من القرن الماضي نوعاً مبتكراً من الأقلام وهو القلم (الفلوماستر) الذي يعتبر التطور الأخير في صناعة الكتابة.
قلم البوصة
يؤخذ القلم العربي (القديم) (البوصة) من القصب الذي ينبت على ضفاف الأنهار، وأجود أنواع القصب الهندي ذو اللون البني الضارب إلى السمرة . يُبرى ويُقط ثم يُشق بخفة من الوسط لينساب الحبر إلى السن بصورة منتظمة، ويحظى السن (المنقار) الذي يستعمل للكتابة بعد غمسه بالحبر بأكبر قدر من اهتمام وتجويد الخطاط الذي يبري رأس قلمه بدقة فائقة وحسب معيار يرتبط بعرض (سمك) رأس القلم لما لذلك من أهمية في تحديد نوع الخط المراد كتابته.
قلم الحبر الجاف
شاع استخدام هذا القلم في النصف الثاني من القرن العشرين، وآخر تطوير هذا القلم أيجاد حبر له سيولة تناسب هذا الاستعمال، وأول من نجح في تصنيعه (رينولدز) في شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية و(لازلوبيرو) في الأرجنتين عام ،1945 وفى رأس هذا القلم جسم كروي تحيط به أخاديد دقيقة، وبتحرك القلم يدور الجسم الكروي وينساب الحبر.
قلم الرصاص
في عام 1564 اكتشف الجرافيت في منطقة كمبرلاند في شمال انجلترا، مما أدى إلى اختراع قلم الرصاص، وفي العام 1565 بدأ الناس يستخدمون أقلام الرصاص . حيث اخترع العالم الالماني « كارل جستنر « قلم الرصاص . وقد كان يتكون من الجرافيت الدقيق المحاط بعيدان من الخشب مربوطة بعضها ببعض . وتصنع اقلام الرصاص الآن من الصلصال أي الطين .
قلم الحبر الجاف
كان ( لازلوبيرو ) صحافيا من مدينة بودابيست في المجر وقد اخترع قلم الحبر الجاف ذي الكرة الفولاذية الصغيرة، حيث يسمح هذا القلم بانسياب الحبر بطريقة مناسبة مع السرعة في الجفاف عند الكتابة، وقد حصل هذا المخترع على براءة اختراعه حين استقراره في الأرجنتين باميركا..
وارد بدر السالم