سري، فاتن، نهائي وجارف، على هذا النحو يمكن وصف العلاقة الغرامية التي جمعت بين الشاعر التشيلي الراحل بابلو نيرودا (1904-1973)، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وماتيلدي يوروتيا (1912-1985) اللذين تعارفا على بعضهما بنهاية أربعينات القرن الماضي لكن تلك العاطفة الجياشة والحب الجارف كان مقدر لهما البقاء في دائرة السرية طوال سنوات.
«ثمة أمر أهم منك ومني، إنه أنت وأنا»، هذا ما دونه بابلو نيرودا في لحظة ما غير محددة من عام 1952. ويتابع الشاعر العاشق الشغوف: «معاً نكون مالا يبلغه الناس المساكين قط، السماء على الأرض». تلك الكلمات يكتبها نيرودا من فندق (دي انجلاتيري) الذي كان ينزل فيه في روما، وعلى الرغم من أنه لم يبق في كلماته حيزاً للشكوك مضت ثلاث سنوات اضافية كي يرى الشخص الموجهة إليه الرسالة متأبطاً ذراع الشاعر علنا، حدث ذلك عام 1955 عندما قامت ماتيلدي يوروتيا ونيرودا بترسيم علاقتهما الغرامية والإعلان عن حبهما أمام الملأ ومنذ ذلك الحين لم يفترقا أبداً بعد أن أصبحت ماتيلدي عشيقة الشاعر أولاً ومن ثم زوجته وفي نهاية المطاف حارسة تركته.
ففي نهايةالأربعينيات بدلت ماتيلدي حياة نيرودا بصورة جذرية، إذ أنها لم تبعد الشاعر عن زوجته ديليا ديل كاريل، التي كان يلقبها نيرودا تحببا بالـ (النملة الصغيرة)فحسب، وإنما منحته أيضاً قوة الدفع الرومانسية اللازمة لكتابة (أشعار القبطان).
كما كانت السبب الكامن وراء بناء منزل الشاعر الشهير المعروف باسم «لا تشاسكونا»، في حين تردد على ألسنة البعض أنها قسمت دائرة علاقات الكاتب الحميمية. بالإضافة إلى أنها أنشات مؤسسة بابلو نيرودا.
صدر، في شهر ديسمبر الماضي في إسبانيا، كتاب جديد تحت عنوان «رسائل حب» عن دار «سيكش بارال» الإسبانية يلقي مزيداً من الضوء على أسرار تلك العلاقة من خلال ما يجمع بين دفتيه من المراسلات غير المنشورة والمجهولة بين نيرودا وماتيلدي.. مئات من الرسائل وبطاقات المعايدة والملاحظات المؤرخة بين عامي1950 و1973، سنة وفاة الشاعر.
تلك الأوراق التي تحرسها مؤسسة نيرودا قام بتنظيمها وإعدادها للنشر الكاتب داريو اوسيس، مدير مكتبة وأرشيف المؤسسة المذكورة، الذي يقول إن تلك الرسائل شاهد حي «على أهم علاقة حب عاشها نيرودا».
«تلك الرسائل تسجل حالات حميمية متعددة ومتنوعة في العلاقة بين بابلو وماتيلدي، فهناك فترة سرية غرامية تغص بمشاعر الولع والغيرة جاءت بعد فترة من الاحتفاء بحبٍ راح يتجسد حقيقة على أرض الواقع ومن ثم هناك حب أكثر نضجا بكثير، حب آخر الحياة على حد تعبير أوسيس.
«في الحقيقة إني أحتاج إليك»، يكتب نيرودا إلى ماتيلدي في عام1950 من باريس حيث يطلب إليها الذهاب إلا أنه يطلب منها كذلك أخذ جانب الحيطة والحذر حين يخاطبها قائلاً: «لا تكتبي بلغة خاصة بعد. أجيبيني بصورة عامة حول حياتك ومشاريعك وهكذا تخبرينني بقرارك كي أعرف وأتخذ التدابير اللازمة مع ديليا».
في تلك اللحظة كان قد مضى على النملة الصغيرة عشرون عاماً وهي تعيش مع نيرودا تحت سقف واحد، وفي عام 1946 تعرف الشاعر على امرأة حمراء الشعر في حفل موسيقي في الهواء الطلق في «منتزه باركي فورستل». وعادا ليلتقيا من جديد وكان عمر ماتيلدي يوروتيا 36عاماً ولديها عدة قصص تروى.
فهي فتاة ولدت في كنف عائلة متواضعة بعيدة تماماً عن أوساط الحزب الشيوعي في حين حملتها رغبتها بأن تحظى بمهنة مغنية إلى مسارح متعددة معظمها قليلة الترف وبحسب تحقيقٍ أجراه الكاتب سيرهيو غومز عام، 1944 فإن يوروتيا كانت قد شوهدت متورطة في شبكة للدعارة في مدينة كاياو البيروفية وكانت تعزف في بارات رديئة لكنها نجت من كل ذلك.
في عام1949 تصل يوروتيا إلى منزل نيرودا وديل كاريل في المكسيك أما صلة الوصل فكان عمٌ شيوعي صديق للزوجين. في البداية لعبت دور ممرضة الشاعر عندما كان يصاب بالمرض ومن ثم أصبحت عشيقته وكان ذلك خلال السنوات التي كان نيرودا يسافر فيها عبر العالم منفياً من قبل حكومة غونزالس فيديلا.
ودائماً متأبطاً ذراع النملة الصغيرة رغم أن تفكيره كان في جانب آخر فها هو يكتب إلى ماتيلدي من فرنسا عام 1951قائلاً: «أفكر بك ليل نهار، نهار وليل يا حبي يا حلوتي».
نيرودا الذي طار جنونه بتلك المرأة ذات الشعر الأحمر كان غيوراً أيضاُ. ففي عام 1951 اتفقا على أن يلتقيا في باريس لكنها لم تكن هناك. «تلفظت بأشياء ضدك جعلت ديليا تستاء.
قلت لها أنا تعب من الخيانات، هذه هي ماتيلدي الحقيقية التي تنزهت مع صديقها الصغير على الشاطئ الأزرق والتي تنسانا»، هكذا يكتب نيرودا ملتاعا بنار الغيرة مثلما يطلب من عشيقته تفاصيل عن صداقاتها الفرنسية: «أريد معرفة كل شيء وسأتحقق من ذلك على أي حال «.
عام 1952الجديد أمضاه نيرودا وزوجته ونيميسيو أنتونيز وزوجته اينس فيجيرو ويوروتيا في نابولس ولم تمض بضعة أيام على ذلك اللقاء حتى عادت النملة الصغيرة إلى تشيلي في حين هرب بابلو وماتيلدي إلى جزيرة كابري.
حيث تزوجا على ضوء القمر بشكل رمزي. وخلال تلك السنوات كان الشاعر يضع «أشعار القبطان» التي يقول فيها: «ابنك سيكون سميناً ورائعاً وسيقع في 180صفحة وسيكون له رسومات في الواجهة وفي المؤخرة»، كما كتب ليوروتيا عام1952 مشيراً إلى الديوان الذي رأى النور بطبعة أولى مجهولة التوقيع في نابولس في يوليو من ذلك العام.
وبحسب اوسيس نفسه، فإن يوروتيا لم تكن ملهمة ذلك الكتاب فحسب وإنما أيضاً «مئة سوناتة للحب» وكذلك معظم بقية القصائد الغرامية التي كان سيكتبها نيرودا. ولذلك، فإن انهيار العلاقة مع ديليا ديل كارير كان حتميا ولا مناص منه.
وفي عام1959، شاع خبر علاقة الشاعر السرية الرومانسية في نهاية المطاف وحدث ذلك على لسان مستخدم كان يعمل عند النملة الصغيرة. نيرودا يترك بيتهما الواقع عند مدخل «لارينا» وينتقل إلى «بيا فيستا» حيث يبني مع ماتيلدي بيته الشهير المعروف باسم «لاتشسكونا» وهكذا ينتهي الشقاء.
كتاب رسائل الحب يحتوي كذلك على كل المراسلات التي جرت بين بابلو وماتيلدي بعد أن تزوجا حيث لا يمكن قراءة أي أثر هناك للخداع الذي يمارسه الشاعر مع أليسيا أوروتيا ابنة عم زوجته في نهاية الستينيات في جزيرة «ايسلانيجرا».
وبحسب أوسيس، فإن ذلك الشقاء لم يصل إلى نهايته مع بلوغ علاقة الحب بينهما أوجها ويقول: «على الرغم من الخداع بقي الحب. والرسائل الأخيرة مؤثرة جداً وتنطوي على الكثير من الحنان والورع تماما كرسائل الفترة الأولى»، في حين الشاعر يؤكد وكأنه يتنبأ في رسالة مؤرخة في 31 من اكتوبر 1951 ويقول «سندافع عن حبنا مدى الحياة».
تفاصيل الحياة
يروي نيرودا في رسائله تفاصيل حياته اليومية حيث يقول: لآن على سبيل المثال وعلى الرغم من أن غرفة الاستقبال مليئة بالناس وأنا لم أتناول طعامي بعد في هذه الساعة المتأخرة من الليل وعلى الرغم من أني مريض بالتعب، أكتب إليك ليس لمواساتك وإنما لاستغلال اللحظة التي انتظرتها ليل نهار.
أنا أثق بك وحتى لو لم يكن لديّ سوى صمتك الذي يهمني، ليس لهذا السبب سأذهب بجولة عبر بيرو، أدرك أنك لي وأني لك والرسائل والأخبار تفيض، فحبنا يملأ كل شيء، وكل شيء سيحدثك عني على مدار الساعة وكل شيء يجلب لي أخبارك». .
باسل أبو حمدة