لا شك أن قصر فرساي، القريب من العاصمة الفرنسية باريس، هو أحد أشهر المعالم التاريخية الحضارية في فرنسا، كما أنه يتمتع بشهرة عالمية كبيرة. وكان قد عرف ذروة قوة سلالة «البوربون»، كما كان شاهدا على سقوطها عندما قامت الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789.
وكان المثقف الفرنسي البارز جان جاك اياغون قد تولّى إدارة قصر فرساي لأربع سنوات خلت حيث ترك مهام وظيفته يوم 2 أكتوبر 2011. وفي ما يشبه "الوداع" يقدّم كتابا عن هذا الصرح التاريخي العريق الذي غدا أحد أكثر المعالم التاريخية الفرنسية جذبا للسيّاح من جميع أنحاء العالم، يشرح فيه «قصر فرساي في 50 محطة تاريخية»، كما يقول العنوان.
ويجد القارئ في هذا العمل نوعا من «الدعوة» للتعرف على «أحداث» و«شخصيات» لعبت دورا كبيرا في تاريخ فرنسا وفي تاريخ قصر فرساي أو أنها تركت بصماتها على «ديكوره». هكذا يتم الحديث عن لويس الرابع عشر وعصره الذهبي ولويس الخامس عشر و«محظيّاته» الكثيرات وماري انطوانيت ولويس السادس عشر، آخر ملوك البوربون، وأخيرا عن نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، وزوجته كارلا بروني.
كما يقدم المؤلف قصر فرساي من خلال اللحظات الحاسمة الكبرى التي عرفها خلال تاريخه من حيث أنه كان بالوقت نفسه «رمزا للحكم الملكي المطلق» ثم «مهدا للثورة الفرنسية الكبرى» و"الإطار الذي جرى بداخله التوقيع على اتفاقية السلام التي وضعت حدا نهائيا للحرب العالمية الأولى" فيما يعرف بمعاهدة فرساي الشهيرة. وفي المحصلة لم يكن قصر فرساي بعيدا عن أحداث فرنسا وعن تاريخ العالم عامة لقرون عديدة.
ما يثير الانتباه في هذا الكتاب، مثل غيره من الكتب ذات الطبيعة نفسها، هو دقة التواريخ المقدمة، كقول جان جاك اياغون أنه يوم 8 سبتمبر 1715 كان الشاب لويس الخامس عشر مصابا بـ«الزكام» وليس الملك لويس الرابع عشر مثلما يقال ويردد. ونعرف أنه كان هناك شخص مكلّف تحديدا بمهمة «تدوين» أدقّ التفاصيل المتعلقة بحياة الملك.
ومن «المحطات» الهامة في تاريخ فرساي، وغير المعروفة كثيرا، ذلك الحدث الذي جرى يوم 13 يونيو- حزيران من عام 1684. في ذلك اليوم تمّ تدشين ما يُعرف بـ«آلة مارلي»، التي كان قد صممها مخترعها من أجل «رفع المياه» من نهير السين إلى أحواض ونافورات وشلالات حديثة الملك.
التعليق الذي يقدمه المؤلف على ذلك الاختراع الكبير هو أن «الإنسان قادر على القيام بأعظم الأمور كما أنه قد يقترف أكثرها سوءً». الأمثلة على عظمة العمل الإنساني في قصر فرساي يراها المؤلف أيضا في «هندسة النباتات» التي قام بها «اندريه لونوتر» وفي "العبقرية المعمارية" للمهندسين «لوفو» و«مانسار».
ويعيد المؤلف إلى الذاكرة بعض أولئك الذين كانت لهم مساهماتهم الكبرى في إعطاء قصر فرساي قدر كبير من التميّز. ومن بين هؤلاء الميكانيكي البلجيكي «رينكان سواليم» الذي أشرف على إنجاز «نافورات قصر فرساي» الرائعة الجمال. تتم الإشارة أن هذا المبدع "جرى نسيانه بطريقة مخجلة"، ولم يعد يتعرّف على اسمه سوى بعض الأخصائيين بقصر فرساي، بينما حظي بعض "المزيفين" بشهرة كبيرة.
ومما يذكره المؤلف هو أن «الآلة» التي تقوم بتزويد جميع نقاط توزيع المياه في قصر فرساي تحتوي على «259 مضخّة و14 عجلة- دولاب قطرها 12 مترا يحركها تيار الماء». وكانت صناعة تلك الآلة قد تطلّبت 5 سنوات من العمل المستمر قام به 800 من الرجال.
يعود الأثر المكتوب الأول عن فرساي إلى عام 1038، لكن تعافيت على ملكية المنطقة عدة عائلات كان آخرها عائلة «غوندي» التي باعتها إلى الملك عام 1632. وقام لويس الثالث عشر مباشرة ببناء «استراحة للصيد» بدلا من الطاحونة القائمة سابقا. كان البناء الجديد «متواضعا» ومبنيا من الحجر والقرميد. وكان «صالون» لويس الثالث عشر يحمل وسطه. وهو يتناظر اليوم مع الحجرة التي تحتوي اليوم سرير لويس الرابع عشر في قصر فرساي.
وعندما توفي لويس الثالث عشر عام 1643 لم يكن ابنه لويس الرابع عشر قد بلغ الخامسة من العمر. و«من أجل الملك الصغير تمّ بناء قصر صغير» خلال فترة تمتد من عام 1641 حتى عام 1660 من حيث جرى الشروع بتعديلات كبرى على القصر المتواضع حيث أراد الملك توسيع رقعة القصر وقد استمرّ العمل في المشروع الجديد حتى عام 1664.
لكن بقي «قصر اللوفر» آنذاك هو القصر الملكي «رسميا». مع ذلك جرى تدريجيا منذ عام 1664 نقل مقر سلطة لويس الرابع عشر إلى فرساي حيث أصبح الملك مع وزرائه وحاشيته يقضون أياما عديدة. وآنذاك أعطى الملك أوامره بتزيين حديقة القصر بالتماثيل.
وكانت ورشة العمارة الثانية لتوسيع قصر فرساي قد استمرت خلال سنوات 1669-1672، ثم ورشة ثالثة 1678-1684 حيث جرى تعديل واجهة القصر المطلّة على الحدائق واستخدام الرخام الأبيض المطعّم باللون البرونزي في الحمامات وبناء «قاعة المرايا» و«صالون الحرب والسلام» و«تجديد الديكورات» ليأخذ قصر فرساي الصورة التي هو عليها في الوقت الراهن «تقريبا». ذلك أن لويس الخامس عشر أضاف خلال سنوات 1699- 1710 «كنيسة القصر» الأخيرة ووسّع من «مقر إقامة الملك» ليأخذ القصر صورته «النهائية».
ويبقى قصر فرساي «مكان زاخر بالذاكرة»، و«متحف لتاريخ فرنسا»، كما يصفه المؤلف في كلماته الأخيرة.
المؤلف في سطور
جان جاك اياغون، هو أحد الوجوه البارزة في المشهد الثقافي الفرنسي اليوم، وبعد أن تولّى إدارة عدة مؤسسات ثقافية وتاريخية، كان لأربع سنوات مديرا عاما لقصر فرساي الشهير. وقد ترك هذا المنصب يوم 2 أكتوبر 2011 .من المناصب التي تولاّها مدير مركز جورج بومبيدو ووزير الثقافة في فرنسا.
الكتاب: فرساي في 50
محطة تاريخية
تأليف: جان جاك اياغون
الناشر: البان ميشيل
باريس 2011
الصفحات: 332 صفحة
القطع : الكبير
Versailles en 50 dates
Jean-Jacques Aillagon
Albin Michel - Paris- 2011
332 .P