يناقش الناقد إبراهيم فتحي في كتابه "العالم الروائي عند نجيب محفوظ" تساؤلاً أساسياً هو: هل تشكل المرحلة الأخيرة من إنتاج نجيب محفوظ ـ التي شاعت تسميتها بالمرحلة الفلسفية أو الفكرية ـ انقطاعاً في استمرار عالمه الروائي القديم؟ وهل يمكن اعتبارها من ناحية الرؤية الفكرية والبناء الفني معاً تطوراً جديداً يقدم رموزاً لمأساة الإنسان العامة في العصر الحديث، وشكلاً جديداً يخرج بالرواية التقليدية من أزمتها؟

 أو بعبارة أخرى: هل كان عالمه القديم تعبيراً عن علاقات راسخة مستقرة مرصوف الشوارع تذرعه شخصيات ترتدي أخلاقيات قاطعة التحدد، وتدون معالم حياتها النفسية في بطاقاتها الشخصية، بينما أصبح عالمه الجديد تعبيراً عن وضع انتقالي تذوب خطوطه الخارجية قبل أن تتشكل، ويفترسه صراع هائل، يملؤه التطفل الفلسفي للنائمين يتثاءبون أسئلتهم عن معنى الحياة وتبتلع أفواههم المفتوحة العالم الذي يتخاطب فيه السكارى والدراويش والمومسات بالشعر المنثور؟

العالم الروائي القديم عند نجيب محفوظ، كما يقول المؤلف، هو عالم قائم بذاته، يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى، وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي، فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص، وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية، فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والانفعالات الجاهزة.

ويتحدد شكل الرواية عند نجيب محفوظ بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها، فرواياته حتى الثلاثية تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي، بالصراع بين عالم البورجوازية الصغيرة والعالم الآخر الرسمي، بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر، إن ملحمة الحياة الخاصة عند نجيب محفوظ تتنفس بالدلالة العامة.

وليست الحبكة الروائية عند نجيب محفوظ إلا حركة المقدمات لتجنب نتائج وفقاً لمقاييس مضمرة، فإن ما يحدث في النهاية هو التعقيب الأخلاقي والفكري على سلوك الشخصيات، وهو لا يختلف في ذلك عن سائر كتاب الرواية البلزاكية، فالخاتمة يحددها السياق الموضوعي العام لكل لحظات الفعل المتعاقبة؛ تدفع أخلاقاً كريمة وتلتزم بقواعد اللعبة وتأخذ نجاحاً أو العكس؛ ولكن نوعية الموقف الفكري عند نجيب محفوظ فرضت دائماً على رواياته حبكة غليظة مثقلة تكاد تقترب في أغلب الأحوال من حبكة الرواية البوليسية.

ويتوصل المؤلف إلى أن المرحلة القديمة عند نجيب محفوظ تنسج في صبر شبكة من "العلاقات" اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية، فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم، وهي تطبع بطابعها ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً، بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.

وينتقل الناقد إبراهيم فتحي إلى المرحلة الفكرية الجديدة عند نجيب محفوظ، موضحاً أننا في هذه المرحلة نلتقي بالعالم القديم لمحفوظ متنكراً بعد أن تخفف من ضخامته متبعاً أقسى أنواع "الرجيم"، ولكن هذه التخطيطات الرشيقة التي تسرف في تبسيط الوضع الإنساني تحمل فوق طاقتها وهي تحاول اكتشاف وسائل جديدة للتعبير.

وليس من الممكن أن ننكر التحولات التي طرأت على الواقع الاجتماعي في العالم، أو المتطلبات الجديدة لتصوير هذا الواقع، وقد أدى ذلك إلى اختلاف في الأهمية النسبية لبعض القضايا، وفي طريقة إبرازها بطبيعة الحال، ولكن منهج الرؤية الفكرية يظل واحداً، ويكاد يتناقض في جوانب معينة مع الأدوات الفنية التي توظف لالتقاطه.

إن كارثة الفردية وهي تسحق الفرد تصبغ العالم القصصي الجديد لنجيب محفوظ، دون أن تناقش مناقشة كافية على أسس جديدة، فهناك فردية خاطئة تعميها أنانيتها عن مراعاة قواعد لعبة الصعود، وفردية سليمة تراعي تلك القواعد، ويدفعنا السرد إلى أن نتعاطف معها، دون أن نجد أساساً يفسر لنا تلك المشكلة القديمة التي لا تعد سمة نوعية لمشكلات ما يسمونه بالإنسان المعاصر.

وكاتبنا يقدم نماذج مقنعة في كثير من الأحوال، وينجح في الإمساك بتلابيب الدراما التي تدور داخل حدود الضمير الفردي، ويصور التعثر الفكري والروحي كانعكاس لاختلال الاتزان في العالم الخارجي، فهو لا يخلق أطيافاً فكرية ممزقة الأوصال.

ولا يكتب ملفاً نفسياً لشخصياته، بل يقدم الصراع الاجتماعي والفكري متغلغلاً في أعماق أفراده، طارحاً للمناقشة الأسس التي يقوم عليها البناء الاجتماعي من زاوية فكرة العدالة المجردة، دون أن يمس الجذور العميقة لجوهر التطفل الاجتماعي إلى أبعد من مظاهرها الصارخة في تفاوت أحجام الملكية والدخل.

وفي هذا الإطار يؤكد إبراهيم فتحي أنه إذا كانت الرواية التقليدية قد أسهمت في خلق عالم الفرد الذي يسحقه التدهور الجديد للعلاقات البورجوازية، فإن ازدهار شخصية الإنسان وما تطرحه من مشكلات في مناصبة هذا التطور العداء، هو المادة الجديدة للرواية، فليس اضمحلال شخصية الفرد الإنساني هو النغمة المميزة لعصرنا، بل الصراع من أجل إعادة تشكيلها، ومن الواضح أن المرحلة الفكرية عند نجيب محفوظ لا علاقة لها بالانسحاب إلى قوقعة الأشكال الفنية بعيداً عن مشكلات الحياة.

 

 

 

 

الكتاب: العالم الروائي عند نجيب محفوظ

تأليف: إبراهيم فتحي

الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب2012

الصفحات: 221 صفحة

القطع: الصغير