يبحث كتاب "الدّين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ" في جزئه الأول، لمؤلفه الدكتور عزمي بشارة، موضوعي الدين والعلمانية، في مستوى المضمون التاريخي المتطور والمتجدد. ويبين بشارة انه لا تكمن إشكاليّة البحث في الدين (كدينٍ بذاته)، بل في "أنماط التديّن".
وليس في هذا الأمر اجتهاد في اللّغة فحسب، بل جهد معرفيّ لمقاربة ما يجب مقاربته وإدراكه على مستوى التاريخ الفعليّ، أي على مستوى "ما جرى وما يجري" فعلاً، في السياقات التاريخيّة لحالات تمثّل الدين، باعتبارها ظواهر اجتماعيّة، متغيّرة ومتبدّلة ومتحوّلة.
على أنّ أنماط التديّن كظواهر متحوّلة، لا تنفصل أبدا عن أنماط العلمنة المتداخلة معها، كبنيةٍ قائمة بذاتها في مجتمعٍ ما. فالفرق بين أنماط التديّن في دولٍ ومجتمعات معيّنة، يتحدّد كما يقول عزمي بشارة، في مقدّمة كتابه "الدّين والعلمانيّة في سياقٍ تاريخيّ" بنسبةٍ كبيرة، بأنماط العلمنة التي تمّت والتي تعرّض لها المجتمع، كما أنّ أنماط العلمنة يتحدّد فعلها بدرجات التديّن وأنواعه.
ونتبين من طبيعة البحث في الكتاب، غنى الرؤى والأفكار التي يطرحها، خاصة وأنها تعكس مضمون مشروع عزمي بشارة في خصوص هذا الموضوع، الذي يتسم بأنه، معرفيّ تراكميّ، إذ كان بدأ البحث فيه منذ عقدٍ ونصف ولا يزال الحفر والإغناء فيه، قائمين تحت عنوانٍ واسع وعريض: "الدّين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ".
ويصدر أوّل ثلاثة أجزاء من هذا المشروع، حاملًا عنوانًا فرعيًّا: "الدّين والتديّن" عموما. وهذا الكتاب هو مقدّمة نظريّة للبحث. أمّا الجزآن الآخران فيجري العمل في إعدادهما تباعا. وموضوع الثاني هو العلمنة في أوروبا، وشارف على الانتهاء، والثالث موضوعه: نماذج عثمانيّة وعربيّة عن عمليّة العلمنة، وهو قيد الإعداد.
يتضمن الجزء الأوّل - بعنوان فرعي: "الدّين والتديّن"، فصولًا خمسة، يعالج الأوّل العلاقة بين ما هو مقدّس وأسطوريّ ودينيّ وأخلاقيّ، معالجة جدليّة، ففي موضوع علاقة الدين بالأخلاق، وهي العلاقة الأكثر تعقيدًا "يصعب فصل الدين عن طاعة ما يمليه.
ولكن لا بدّ من التعامل معه (الدين) كظاهرة باتت مختلفة عن الأخلاق. وفي الفصل الثاني، يعالج المؤلّف مسألة التديّن من منطلق أنّ "الدين هو ظاهرة لا تقف وحدها من دون تديّن (..)، على أنّ التديّن بصفته ظاهرة اجتماعيّة لها دينامية تطوّر وحيّز دلالي واجتماعيّ كافٍ يسمح بوجود تديّن من دون إيمان".
يتطرّق بشارة في الفصل الثالث إلى نقد محاولات دحض الدين (في نقد نقد الدين)، إذ يتطرّق بالتحديد إلى نقد محاولات دحض الدين التي يعدّها بعض المنظّرين العرب "جهدًا تنويريّا تقدميّا". في الفصل الرابع (تعريفات)، يتناول الباحث المحاولات المختلفة لفهم الدين.
وتحديدات الدين والتديّن نظريّا، ليصل إلى اعتبار جهد تعريق الدين وتحديده جهدا علمانيّا حتّى لو قام به باحثون غير علمانيّين، وإلى النتيجة التي تقول "إنّ فهمنا للدين يتغيّر بحسب العلمنة وأنّ أنماط التديّــن في مجتمعٍ من المجتمعات تتأثّر بأنماط العلمنة التي يمرّ بها".
ويمثل الفصل الخامس، وعنوانه "انتقال من مبحث الدين والتديّن إلى مبحث العلمانيّة"، الجسر الواصل ما بين الجزء الأوّل والجزء الثاني من مشروع عزمي بشارة. كما أن عزمي بشارة، سيصدر الجزء الثاني من الكتاب، تحت عنوان "العلمانيّة ونظريّة العلمنة". وبهذا يكون الفصل الخامس من الكتاب نتيجةً وبدايةً، في الوقت نفسه، ومضمونه:
قناعة أنّ الدين ظاهرة اجتماعيّة متغيّرة وقابلة للدرس (...)، إنّه "إنسانيّ وإرادوي واجتماعيّ ونسبيّ ومتنوّع"؛ والعلمانية ليست نظريّة علميّة، ولا تعني العقلانيـــة بالضـــرورة، بل هي ثقافة وايديولوجية تطوّرت تاريخيّا، وتمخّض عنها نظريّة سوسيولوجية في فهم تطوّر المجتمعات كصيرورة من العلمنة". وهذا هو موضوع الجزء الثاني من الكتاب.
الكتاب: الدّين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ
تأليف: الدكتور عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- الدوحة 2012
الصفحات: 496 صفحة
القطع: الكبير