لرغاء الإبل وهي تتهادى على فرش الرمل في الصحراء، صدى يردد مواويل البدو ومعزوفات الريح والليل وأغنيات الرعاة منذ فجر التاريخ، تدندن في صمت المكان، وتبعث ترتيلات الروح ترنيمات في جنباته.
تختلف الروايات التاريخية حول الحداء، وهو الغناء الذي يطلقه الرعاة للإبل، لكنهم يجتمعون على جذوره الضاربة في التراث العربي. ويطلق الحداء على ترنيمات الراعي التي ينشدها للإبل فتجتمع حوله إن كانت متفرقة، أو تسير في اتجاه محدد إن كانت في قافلة.
لذلك هو نوع من التواصل قد تنطبق عليه نظرية الفعل المنعكس الشرطي في علم النفس السلوكي عند بافلوف، لأن الإبل تعرف صوت حاديها وغناءه فتتجاوب معه أكثر من غيره، في تخاطر متبادل يمليه التعود، فيصبح ترديده راحة لها، وهي تتهادى مثقلة بالأحمال في دروب الصحراء أو تائهة في مراعي الكلأ.
«التدوية»
ويعتبر هذا النوع من الغناء للإبل تدوية، ويقال إن أول من سنه مضر بن نزار بن معد، فيما ذكرت معاجم اللغة الفصحى أن «التدوية» أصل الحداء ـ بكسر الحاء وفتح الدال ـ ويجوز الحداء ـ بضم الحاء وفتح الدال أو تخفيضها ـ والواحدة من «الحداء أو الحداء» هي «أحدية وأحدوة». ورجل حاد وحداء، هو الذي يحدو الإبل، أي يغني لها لتتبعه.
ويجتمع المؤرخون ورواة أخبار البادية أن التدويهة هي الأصل والبداية لكل أنواع الحداء. كما أن هناك نوعين من الحداء، الأول «حداء الإبل»، والثاني «حداء الخيل»، فالاثنان هما من بحر الرَجز، وسمي رجزاً نسبة إلى رجز البعير.
فالبعير عندما يكون مقيداً أو مريضاً يتقارب خطوة ويضطرب مشية، فيسمى مشيه في هذه الحالة «رجزاً»، ويقال للبعير «راجز» أو «رجاز»، لأنه يرتجز أو يرجز في مشيه، ويذهب البعض إلى أن هذه الدندنة ساعدت الخليل الفراهيدي في اكتشاف مفاتيح العروض والأوزان الشعرية.
غناء شعري
تطور الحداء من مجرد همس إشارة أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري، دخلت فيه مع الوقت المعاني والكلمات الشعرية المغناة، والأشطر الموزونة، فجمع عذوبة الصوت وسحر القافية والبيان وغنى المحتوى والمعنى، المستمد من بيئة البدو وثقافتهم يريح الراعي كما يريح الإبل، يستأنس به في ليله، نغمات ومقاطع تجرح شجو المدى.
لذلك أصبح فناً شعرياً غنائياً معروفاً في سائر أنحـــــــاء البوادي العربية لا يكاد يختلف في المضمون والأداء، وإن كان يختلف في مخارج الحروف ومعاني الكلمات والألحان مـن منطقة أو قبيلة من قبائل البدو إلى أخرى، ويتكون من بيت واحد من الشعـر ( الغنائي) بقافية واحدة لكلا الشطــرين، وكل بيت يحمل معنى مستقلاً عن البيت الذي يليه في توافــــق إبـــداعــي وصوتي يؤديه الحادي بصوت مرتفع، ويمنحه حسب الظرف والحالة، مداً وتطويلاً لبعـــض كلماته وقوافيه.
النوق الصديق الحميم
وللبدوي في حياته علاقة حميمة بالناقة، منذ الأزل، فهي ركوبه ومشربـــه وزاده وعدتـــه إذا جفـــت منابـــع المـــاء وغـــــارت الشــــهب، لذلك كانت زينتهم وفخرهم، رمـــزاً للعز والقـــوة، تدفـــع لإثبــات السلــــم في الديات والعشور والمصالحـــات، وتـــدق بسببهــا طبـــول الحرب والإغارة، يدللونهـــا كما يدللـــون بناتهـــن الأثيرات، ويذرفـــون الدمع عليها، إذ يقـــول الشاعر أبو عمر بن العلاء:
إذا أم سرياح غدت في ظعائن جوالس نجد فاضت العين تدمع
كما أن لبــن الناقــــة عند العرب الأوائل والأواخـــر هو ألـــذ وأشهـــى مشروب على الإطــــلاق، إذ يقـــول أحد الشعراء:
اترع الكأس من حليب الصعود فهــــــو يغنـــــي عـــن إبنـــــــة العنقــــــــــود
واسقنيــــه وقــــت الصبــــوح بروض فيـــــــــــــــــه ورد معطـــــــــــــــــــر للـــــوفـــــــــــــــــــــود
رسول العاشقين
كما أصبـــح حادي النوق، رسول غرام، يبلغ تحايـــا العاشقــين لربــــات الخـــدور على هوادجهــــن، وهي تتمايل في سيرها، كما فعل الكميت بن زيد الأســـدي (شاعر أموي) في غزليتـــه المشهــورة:
ياحادي العيس عرج كي أودعهم ياحادي العيس في ترحالك الأجـل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم وحملوها وســارت فـــي الدجى الإبـــل
وأرسلت من خلال الشق ناظرها ترنــــــــــــــــو إلــــي ودمـــــــــــع العـــــين ينهمــــــــــــــل
إني على العهد لم انكر مودتكـم ياليت شعري بطول البعد ما فعلوا
الحداء في الثقافة العربية
أصلت الثقافة العربية لحداء الإبل شعراً وموروثاً شفاهياً متناقلًا، فأسس ذلك المخزون الشفاهي لكم هائل من الحكايات والقصص والمرويات. نجدها في كل العصور في التاريخ العربي. قبل الإسلام وبعده. فنجد سلام الحادي، وهو رجل حسب الروايات المتناقلة عاش في فترة الدولة العباسية كان يضرب المثل بجمال حدائه.
ويحكى من ضمن قصصه المحفوظة في الذاكرة العربية أنه قال يوماً للخليفة المنصور يا أمير المؤمنين مر الجمالين بأن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء فإني آخذ في الحداء فسترفع رؤوسها وتترك الشرب. فأمر الخليفة له بما طلب. فأخذ يترنم لها بأبيات:
ألا يا بانة الوادي بشاطئ نهر بغداد
شجاني فيك صياح طروب فوق مياد
يذكرني ترنمه ترنم رنة الشادي
إذا أسودت مثالثها فلا تذكر أخا الهادي
وإن جاءت بنغمتها نسينا نغمة الحادي
وحسب ما يروى فإن الإبل رفعت أعناقها وعافت الماء كأنها لم تعطش يوماً، فتعجب المنصور ومن معه من أمر حدائه، الذي أثر على الإبل وقد أنهكها العطش فوقف بينها وبين ورود الماء مستأنسة به. وتقول الحكايات أنه أمر له بجزية.
ومثل هذه الحكاية كثير في التراث العربي، مما يؤكد رسوخ الحداء كمفردة متعارفة من مفردات الصحراء، أوجدتها البيئة وكائناتها المتمثلة في الإبل.
ومما يؤكد قوة حضور الإبل في الثقافة العربية استشهاد القرآن في آياته بها لضرب الأمثال من حياتهم اليومية، لتقريب الصور لهم، فجاء بلسان فصيح (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)، كما ورد ذكرها في عدد من الأحاديث النبوية الشريفة. كما تمت التوصية بإكرامها ومن ذلك ما ورد عن الأكثم بن صيفي، الذي يعد أحد الحكماء في الجاهلية، حيث قال (لاتضعوا رقاب الإبل في غير حقها، فإنها مهر الكريمة ورقوء الدم، بألبانها يتحف الكبير ويغذى الصغير).
عوالم الصحراء
وقد يكون محقاً الروائي الليبي إبراهيم الكوني في حديثه الذي بدأه في رواية (المجوس)، ومازال يشتغل عليه فكراً ورؤية ونتاجاً روائياً، حين قال إن عوالم الصحراء عوالم مفتوحة خيرة بطبيعتها، بينما حلت اللعنة عند استقرار الإنسان. وقد يكون هذا الكلام دعوة للترحال الدائم وعودة إلى البداوة بفطرتها، لا تخلو من (رومانسية جديدة) ممن يعتبر أحد رواد هذا التيار في الرواية العربية المعاصرة.
لكن المتأمل لعوالم الصحراء بدقة، وكائناتها بتريث، وأصواتها وترنيماتها بإنصات قد يشاطره الرأي لأن الحياة الحقيقية تبدأ هناك في ذلك الفضاء المفتوح، حيث للهمس صدى آخر كأنه يضرب جدار الزمان والكون ويعود إلى أذنيك قوياً دون حواجز، وحيث المسافة على مد البصر لا تموت لأن الأفق لا يحدها.
ذراني والفلاة بلادليل ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذي وهذا وأتعبُ بالإناخة والمقام