ترتبط محاولات الإحياء الفني دوما بالجمهور أو المستهلكين المحتملين للمنتجات الفنية وبقدر اتساع هؤلاء بقدر ما يكون أمام جهود الإحياء فرصة مواتية للنجاح، خاصة إذا ما أحسن المخططون التوجه لتلبية احتياجاتهم الفعلية.
ولاجدال في أن المرأة تأتي في طليعة القوى الشرائية النشطة التي تقبل على التعاطي مع المنتجات ذات الطابع الجمالي، ولعل ذلك يكون مدخلا مواتيا لحركة إحياء الفنون الزخرفية الإسلامية وخاصة في مجال صياغة المعادن والحلي، الذي تتوجه منتجاته الى النساء دون سواهن من أعضاء المجتمعات الإسلامية بحكم أن زينة الذهب والفضة قد حرمت شرعا على الرجال.
ومن المعروف أن فنون الصياغة والحلي في أرجاء العالم الإسلامي اكتسبت شهرة تاريخية حتى أصبحت كنوز الشرق مضربا للأمثال في الترف ومطمعا لكل راغب في الثراء وباحث عن الجمال الفني وأحرزت الأقاليم الإسلامية المختلفة نجاحاتها وفقاً لأساليب محلية مميزة، ولا نكاد نجد إقليم منها إلا وتميز بطابع جمالي خاص وأساليب صناعية متفردة.
ويكفي أن نطالع مقتنيات المتاحف والمجموعات العالمية من روائع ما أنتجه صياغ المعادن المسلمين لندرك مدى رسوخ هذه الصنعة في بلدانهم، وجدارتها باعادة انتاجها لتلبية أحلام نساء الكون في حيازة أشكالها الفنية البديعة.
لقد حملت الحلي والمشغولات المعدنية سمات متفردة في عدد من الحواضر الإسلامية وخاصة في الهند وإيران وتركيا واليمن ومصر والشام والمغرب العربي بالإضافة الى الأندلس وصقلية.
ومن أسف أن المسلمين في أوطانهم قد تخلوا، إلا ما ندر، عن الطابع المميز لمصوغاتهم وحليهم فانجذبوا أولا الى الأنماط الأوروبية، لاسيما بعد تطور تقنيات سبك وصياغة المعادن في ظل الثورة الصناعية، إذ كان المسلمون يخلطون الذهب بالفضة لتخفيض عياره بحسب الطلب.
وكان من شأن ذلك إكساب الحلي الذهبية لونا أصفر مائل للإخضرار مع ليونه كانت ملائمة لأعمال التشكيل الدقيقة، وما أن نجح البنادقة الإيطاليون (فينيسيا) في خلط الذهب بالنحاس لاكسابه صلابة أكبر ولونا كرزيا مائل للإحمرار حتى جاراهم صياغ المسلمين وراحوا يتخلون عن الفضة حتى أنهم عدوا كل ذهب جيد «ذهباً بندقياً».
واتبع ذلك التعديل الصناعي إنجرافاً صناعياً وزخرفياً باتجاه محاكاة الأشكال المبتكرة والمتنوعة لمشغولات الذهب الأوروبية خاصة وأن أساليب تشكيلها تكاد تعتمد على الصب بدرجة أساسية إضافة الى بعض أعمال الثني والتخريم بينما كانت صياغة المشغولات الذهبية .
والحلي في الفن الإسلامي تعتمد على أساليب أكثر تنوعا وأشد تعقيداً، كالترصيع بالمينا والأحجار الكريمة والنصف كريمة، والتكفيت أي إدخال معدن في آخر عن طريق الحفر للزخارف وملء فراغاتها بأسلاك معدنية رقيقة عن طريق الطرق برفق عليها.
والحقيقة أن الفارق الأساسي في النظرة الجمالية للصياغة في الشرق هو أنها لم تكن تعتمد بشكل أساسي على معدن الذهب النفيس ولونه البراق وإنما أيضاً على الإيحاءات اللونية للحلي، فالتكفيت كان يمزج في قطعة الحلي بين لوني الذهب والفضة.
والترصيع بالمينا وهي عبارة عن أكاسيد معدنية مزججة كان يترك مجالاً واسعا لتزويد قطع الذهب أو الفضة بألوان أساسية أهمها الأحمر والأزرق والأسود والأخضر والأصفر والأبيض، بدرجاتها المختلفة. وكانت هذه الرؤية اللونية تجد قبولاً واسعاً في عالم العصور الوسطى حيث كانت ترتبط الألوان بمعتقدات ذات طابع سحري.
وفضلاً عن ذلك فقد كانت الأحجار من كل الألوان والرتب تعد بمثابة أحد العناصر الرئيسية في الرؤية التشكيلية لصياغة الحلي، ليس فقط لجمالها الأخاذ ولارتفاع القيمة المادية لبعضها ولكن ايضا للمعتقدات التي كانت تربط بين أعمال السحر والطب والتفاؤل وبين ألوان الأحجار الكريمة، كالزمرد والياقوت والمرجان والكميت والفيروز وغيرها.
وبعد موجة الإفتنان بالمشغولات الذهبية الأوروبية ونتيجة لانتعاش أسواق الدول النفطية وغلبة العمالة الآسيوية عليها أخذت التقاليد الآسيوية في صياغة الذهب تهيمن على الأذواق النسائية في الوطن العربي على وجه الخصوص خاصة مع طرافة اشكالها التي تجمع بين الأنماط الأوروبية المألوفة وروح الأساطير والمعتقدات الآسيوية الموغلة في القدم.
وفيما بين دفتي الإنبهار بالمشغولات الذهبية الأوروبية، والانغماس في المشغولات الآسيوية ضاعت الشخصية المتميزة لصياغة الحلي وتشكيل المعادن في العالم الإسلامي، وبات «الصاغة» في كل مكان يفضلون تلك الأنماط الآلية عن العودة الى المهارات اليدوية التي كانت تعطي لكل قطعة من قطع الحلي شكلا متميزا عن الأخرى.
علما بأن فلسفة الفن الإسلامي اللونية والتشكيلية كانت تجعل من أثمان الحلي ما يتوافق مع كل القوى الشرائية المتاحة في الأسواق، فالمعول عليه ليس مجرد المعدن النفيس ولكن الألوان الرائعة والزخارف الدقيقة.
وإذا كانت هناك ثمة جهود لإحياء فن الصياغة في العالم الإسلامي، وفقا لتقاليده الصناعية والفنية الراسخة، فإنها ستعتمد بالأساس على المهارات الحرفية المتوارثة في نطاق أسرى ما برح يميز العاملين في مهن الصياغة.
ولكن ذلك، ولاعتبارات الربحية، لن يكون كافيا لانتاج مشغولات تحاكي الأنماط القديمة، إذ سيفضل هؤلاء دوما الأعمال النمطية التي تخفض من تكلفة الأيدي العاملة ومن ثم فإن اعطاء أولوية قصوى لبيوت التصميم سيكون المدخل الأكثر جدوى في هذا المجال.
وبوسع الجهات الثقافية العربية والإسلامية أن تبتدع من أنظمة الرعاية والتحفيز ما يساعد المشتغلين في أعمال تصميم الحلي على ابتكار نماذج تحاكي كنوز الحلي الإسلامي المعروضة في متاحف العالم وتستجيب لاحتياجات الزينة للمرأة العصرية في ذات الوقت.
إن جهود المصممين في هذا الإطار لن تعتمد على النقل الحرفي بقدر ما ستعتمد على استلهام الفلسفة الفنية لصياغة المعادن والحلي كما خبرتها مجتمعاتنا إبان إزدهار الحضارة الإسلامية.
وقد يستلزم ذلك تسهيل تداول وتشكيل الأحجار الكريمة والنصف كريمة، بتخفيض الجمارك والضرائب على الخام منها قبل تشكيله، وتشجيع الأنشطة التعدينية للوصول الى المصادر المحلية لهذه الأحجار، وهي وفيرة في البيئة بالمنطقة العربية ودول آسيا وإفريقيا.
ومن الوسائل الإضافية التي يمكن اللجوء اليها إقامة المعارض للأعمال الريادية التي تهدف الى إحياء تقاليد فن صياغة الحلي، فهذه المعارض بما يحيط بها من دعاية تجارية تترك أثراً كبيراً على اتجاهات المستهلكين والذوق العام، لا سيما وأن المدارس الفنية التي اشتهرت في العصور الوسطى حافلة بانجازات شديدة التنوع عظيمة الإبهار وهو ما يساعد على إرضاء كافة الأذواق والاحتياجات.
إن إحياء فن صياغة الحلي وفقا لتقاليده الصناعية والفنية التي اتبعت في ظل حضارة الإسلام هو في حقيقة الأمر رد إعتبار للفن الجميل قبل المادة الثمينة أو المعدن النفيس.
ـأستاذ الآثار الإسلامية ـ جامعة القاهرة