رفيق العظم دعا إلى خلافة مستنيرة

كثيرا ما يسعدنا الأستاذ الدكتور محمد رجب بيومي القائم على أمر مجلة الأزهر المصرية، بنشره كتيبا مع كل عدد يتحدث فيه علم من أعلام الدعوة، ثم يأتي هو بقلمه الأريب ببيان عن الكاتب يجلي فيه شخصيته وآثاره فجزاه الله خيرا، عن جهده المشكور الذي يؤدي إلى تواصل الأجيال، وفي تقديمه لكتيب (منهج الإسلام في الحرية والعدل والمساواة في ضوء الكتاب والسنة) للأستاذ الكبير رفيق العظم، كتب يقول:

نشأ رفيق العظم تحت سماء سوريا من بيت عريق المحتد، عظيم الجاه والثراء، فرأى النور في دمشق سنة 1282هـ وأحضر له والده من قام بتعليمه في المنزل دون التحاق بأية مدرسة، حتى إذا عرف المبادئ الأولى، أتحف بكبار علماء عصره، لينهل من مواردهم الصافية، فأخذ عن الأساتذة طاهر الجزائري، وسليم البخاري، وتوفيق الأيوبي، ما غرس في نفسه حب الإسلام والإعجاب بمبادئه التشريعية، وتاريخ السلف من صدور الصحابه والتابعين.!

وكان توجيهه العلمي على أيدي هؤلاء الثقات من أعلام الشام نائيا بالفتى الثرى الواسع الجاه عن طبقة أمثاله من مترفي عصور التقهقر، ممن يحسبون الحياة لهوا ولعبا في أفياء نعمة وارفة الظلال فثابر على الاطلاع، وأجاد مع العربية لغة أوروبية هي: الفرنسية، كما حذق التركية حذق كتابة ومدارسة.

وقد قال صديقه الأستاذ محمد رشيد رضا: انه لم يقرأ كتابا واسعا في النحو أو البلاغة، بل اكتفى بالمبادئ الأولى، ليتصل مباشرة بالمأثور الرائع من أدب العرب في التراث الخالد، فاكتسب فصاحة عزت على دارس القواعد، وقد يكون في ذلك موضع العبرة لدى من يتخمون النشأ بالمتون والشروح فلا يكادون يحصلون على طائل.

وشاب مثقف مثله في علمه وماله، لابد ان يتصل بسياسة عصره وأحوال زمانه، وقد رأى من تضييق الأتراك على أبناء وطنه في الشام ما بكر به إلى الهجرة لوادي النيل، فأم مصر سنة 1894 ليجد المجال فسيحا لنشر آرائه في جرائدها اللامعة، فبرز اسمه مصلحا سياسيا على صفحات «الأهرام» و«المؤيد» و«اللواء» وسطع نجمه كاتبا مؤرخا ومحققا عالما في صفحات «الهلال» و«المقتطف» و«المنار».!

وكان الشيخ محمد عبده بين من سعد بمجالسهم في صفوة الأحرار، وعن طريقه تأصلت صداقته بكبار الكتاب والزعماء في عصره، واعتنق الفكرة العثمانية في الدعوة السياسية، فأبلى بلاء سديدا في رأب الصدع وجمع الكلمة، وبذل في سبيل ذلك ما بذل من الصحة والمال والوقت، ولابد من وقفة موجزة أمام جهاده السياسي، لنعرف عن أي قوس ينزع.!

كان رفيق العظم ممن يرون في الخلافة العثمانية سبيلا لرقي الإسلام ونهضة المسلمين، إذا تركت مساوئها الأنانية فرجعت عن حكم الفرد واستبداد السلطان، إلى حكم الشورى والخضوع للدستور وأخذت بوسائل التقدم الحضاري، جيشا وتعليما واصلاحاً، فأسس مع صاحب المنار جماعة الشورى العثمانية، لتقوم بالدعوة إلى الخلافة المستنيرة المصلحة، وعمل على إنشاء فروع لها بأكثر البلدان الإسلامية، ولكن السلطان في تركيا أساء بها الظنون، وعد دعوتها إلى الإصلاح السياسي مناهضة لحكمه.

ثم رأى رفيق العظم ان صلته بجماعة الاتحاد والترقي التركية، منخدعاً بما أعلنوه من مبادئ الحرية والمساواة، حتى إذا كشف الزمن عن زيف شعاراتها، جاهرها العظم بالنقد اللاذع.

وأعلن عن تأليف الحزب اللامركزي داعيا إلى خدمة الدولة العثمانية والبلاد العربية عن طريق الإصلاح الداخلي لكل قطر، بأيدي نخبة صالحة من أبنائه المخلصين، يعملون على رفعته السياسية، وإدارة شؤونه المصلحية في ظل الخلافة، دون ان يكون الوالي التركي صاحب الأمر والنهي بلا تعقب.!

وكان يرى ان مجاهرة الخلافة بالانشقاق عليها والتحرش بها وهن في جسم الأمة الإسلامية، وهي كلها جسد واحد لإصلاح العضو به مع فساد عضو آخر، وقد كافح الرجل وجاهد، حتى لمس تغطرس الأتراك عن عناد، فعلم أنهم في واد، وأنهم مع آماله وأحلامه في واد بعيد.!

ولم يشأ الرجل الغيور ان يتخلى عن مبادئه دون مجاهرة علنية تكشف معادن الناس، فوالى رسائله السياسية معلنة خيبة آماله في النهضة عن طريق الكلمة الواحدة والرأي الجميع، ومع كثرة ما كتب في الصحف اليومية من مقالات توضح وجهة نظره، فقد اصدر كتابا خاصا بنزاعه مع الأتراك جعل عنوانه: (الجامعة العثمانية والعصبية التركية) وقف فيه موقف القاضي المنصف لا المحامي المتحيز، فذكر ان أسباب الاضطراب في الجامعة العثمانية يرجع إلى أمرين:

أولهما: الشعوب العثمانية.

ثانيهما: مسلك الاتحاديين بعد إعلان الدستور أما الشعوب العثمانية ـ في رأي السيد رفيق ـ فقد خضعت لسوء الإدارة خضوعا تفككت به عرى الصلة القانونية بين الأمة والحكومة، لان الشعوب تطالب الحكومة بالإصلاح دون جدوى، حتى رأى أكثرها في الانفصال التام معجزة النجاة وانتهزت الدول الاستعمارية هذا الخلاف المستمر بين شعوب الخلافة، فأذكت الضرام وأشعلت الوقود.

وقد أدى صوت الإصلاح المنبعث في كل قطر إلى سوء ظن لدى الأتراك، يشمل كل من ليس بتركي، فنشطت الجمعيات السرية في الشرق والغرب. وكان العرب أكثر الشعوب هدوءاً واعتدالاً، ولكن سوء الظن التركي جعلهم متهمين بالتنابز والشقاق والدعوة إلى الانفصال.!

وهنا لابد من الإشارة إلى ان كل قطر عربي أو إسلامي كان به جماعة من المصلحين تدعو إلى ما سمي بالجامعة الإسلامية، أي بقاء الخلافة العثمانية، وإلغاء مسميات وعصبيات القوميات الخاصة التي كانت تجد في هذه الآونة من يجتهد في بعثها من قبورها، وأول من تآمر على أمته ووطنه وأمانته هم عملاء الصهيونية في دار الخلافة بتأسيسهم جمعية الاتحاد والترقي، وتركيا الفتاة، والماسونية، لكي ينجحوا في تفكيك دول الخلافة، ويسهل أمام الاستعمار التهام هذه الأمة قطعة قطعة، وتتبوأ الحركة الصهيونية وطنا شاسعا في شرقنا العربي، يبدأ بفلسطين ثم يمتد من النيل إلى الفرات.!

وكان القائمون بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية يحسنون الظن بأعضاء هذه الجمعيات التي قامت في دولة الخلافة، بينما كانت هذه الجمعيات تضمر العداء وتخريب الأوطان.

وقد جاء مسلك الاتحاديين بعد إعلان الدستور مما يثير الدهشة والعجب، إذ كان الظن بهؤلاء وقد أعلنوا الدستور ان يجعلوا المساواة والحرية والاخاء نصيب الشعوب العثمانية العثمانية جميعا، ولكنهم قصروا هذه الحرية على الشعوب التركية وحدها، وذهبوا يدعون إلى اتحاد العناصر، واتفاق العناصر وهي شعارات لا تجد الواقع العملي، وقد أفصح رفيق العظم عن كل ذلك في أسلوب يمتلئ بالمرارة والحسرة تفيض به رسالته عن الجامعة العثمانية، ولنا ان نستشهد بمثل قوله ص 125 من مجموعة رسائله.

والحقيقة التي لا ريب فيها أن الاتحاديين قد انفصلوا عن الأمة انفصالاً لا يرضاه لهم صديق للحرية، فأصبحوا في شق والأمة الإسلامية في شق آخر، منذ تظاهروا بالنعرة الجنسية وأعلنوا ما كانوا يضمرونه من الاستمساك بمبدأ سيادة التركي على العناصر العثمانية كلها فنبهوا بذلك العصب الحساس من الشعوب العثمانية الذي كانت اقامته نفحات «حرية»، «أخوة»، «مساواة» في مبدأ إعلان الدستور، فانفضت القلوب من حولهم، وعادت روح الجنسية وروح الشقاق ترفرفان على افاق البلاد العثمانية من تخوم أوروبا إلى شطوط البحر الأحمر، فعمدوا إلى المناداة باتحاد العناصر، واتفاق العناصر، وكيف يكون الاتحاد وهم لا يريدونه؟!

هذا الخطأ مع ما أضيف إليه من الأغلاط التي صدرت عن حزبهم وأخصها، استعمال العنف والشدة مع الشعوب العثمانية الأخرى كان السبب الثاني لاضطراب حبل الجامعة العثمانية، إذ شعر هؤلاء بتبدل مسلك الاتحاديين تبدلاً غير منتظر من حزب يعد حامي الحرية، ومقرر سلطة القانون وهادم أركان الاستبداد، فأخذ سوء الظن يعود والثقة تتبدد».!

لا يدرك مرارة هذه الكلمات في خلق رفيق العظم إلا من علم ان الرجل يضطر تحت سوط الواقع الأليم ان ينفض يده من قوم سلخ أطيب أوقات شبابه في الدفاع عن دولتهم وقد كان صوته من أقوى الأصوات الأدبية التي دافعت عن الكيان السياسي للجامعة الإسلامية في مهب الزعازع الأوروبية، يوم اندفع اعداء الإسلام من المستعمرين يصفون الجامعة الإسلامية ظلما بالبربرية والوحشية، ويجعلونها من أكبر الاخطار على المدينة لاصطباغها بالصبغة الدينية في زعمهم، متناسين ان أوروبا ظلت تسوق جيوشها الصليبية الى الشرق منقادة لصوت الكنيسة دون تعقل.

وانها بعد انتهاء هذه الحرب آلت على نفسها ألا تستريح وللجامعة الإسلامية كيان، فاتفقت روسيا وانجلترا على حربها لا لشيء سوى تقرب نابليون منها، كأنها مصدر الخطر لا فرنسا فهاجمناها في البر والبحر، ودمر الأسطول الانجليزي كل السفن العثمانية في مضيق الدردنيل، بينما كانت روسيا تهاجم الجيوش العثمانية عند نهر الطونة.!

ومازال الكفاح الصليبي يتآزر حول اضعاف الخلافة بشتى أنواع التآزر، غير عابئ بما يصادفه من المناقضات السياسية والخلقية في تآزره، حتى آلت الجامعة العثمانية على يد طغيانه إلى ضعفها المشهود.. ويجيء اليوم ليعدها مصدر التعصب الخطر بعد ان اثخنتها الجراح.!

لقد أبلى رفيق أحسن البلاء فيما كتب من دفاع، وترك رسائله لتشهد باليقظة والحذر، ولتعذره بعد ان أمر قومه أمره بمنعرج اللوى، فلم يستبينوا الرشد إلا على صوت النذير.!

قامت الحرب العالمية الأولى، وبدا من اعمال جمال باشا بالشام ما اشتهر وذاع من القتل والتشريد لأحرار العرب فتأكد العظم أن لا نفع في تركيا، وودع اشتغاله بالسياسة العثمانية غضبان أسفا، ولكنه لم يترك جهاده العلمي الذي صحبه منذ أنس من نفسه القدرة على الكتابة.

وإذا كان قد ترك من المؤلفات الاجتماعية والدينية والتاريخية ما يرجع إليه القارئ في سهولة ويسر، فإن آثاره النقدية المتفرقة في أنهار الصحف اليومية والمجلات الدورية طيلة ثلث قرن لجديرة أن تقرأ من كل مسلم، لان رفيق العظم كان من اليقظة الناقدة لكل ما يشم منه انتقاص لوجه الحقيقة، بحيث لم يكد يسمح لنفسه ان يسكت عن لفظ يقال، جزاه الله خيرا.

القاهرة: وكالة الصحافة العربية

الأكثر مشاركة