تلحين القرآن أو قراءته مصحوبا بالموسيقى قضية حسمها علماء الدين واتفقوا على أنه أمر لا يجوز أبدا، إلا أن الملاحظ جليا أن دراسة القرآن وحفظه هي الخطوة الأولى لاحتراف الموسيقى والتفرد فيها والتميز، ربما لما يحتوي عليه كلام الله تعالى من جرس موسيقي بدون آلات، وهذا بدوره ما يجعل دارسه في سعي دائم وبحث مستمر عن مصادر هذه الموسيقى.
هكذا كان يطلق في الماضي على كبار الموسيقيين أمثال سيد درويش وزكريا أحمد وسلامة حجازي وغيرهم لقب الشيخ، فهم حفظة للقرآن ورواد في مجال الإنشاد والغناء الديني والاجتماعي كل حسب ميوله، إلا أن الثابت أن أثر هؤلاء المشايخ كبير على فن الابتهال والإنشاد كبير لا يمكن إنكاره، وربما يكون الشيخ سيد درويش في طليعة هؤلاء ممن أصلوا لانطلاق حركة فنية رائدة على صعيد الإنشاد والابتهال.ولد سيد درويش في مدينة الإسكندرية في حي كوم الدكة في 17 مارس عام 1892، وكان أبوه المعلم درويش البحر يمتلك دكانا صغيرة لصناعة النجارة البلدي في حيه، وعندما تهيأ الطفل سيد لبداية حياته المدرسية أراد له والده أن يسلك مسلك العلم والفضل.
ومن ثم خط له طريقا يجعله في مستقبله شيخا وموجها دينيا أو إماما أو مدرسا، وبدأ الطفل يداوم على الكتاب، وبعد تعلمه القراءة والكتابة وحفظه بعض أجزاء القرآن الكريم، ترك سيد الكتاب، وانتسب إلى المعهد الديني في الإسكندرية تنفيذا لرغبة والده، وداوم في هذا المعهد سنته الأولى.
هروب قسري ويوم دخوله المعهد اشترى له أبوه جبة وقفطانا وعمامة تليق بطلبة العلم الشريف، وحينما ارتدى الطفل سيد هذه الملابس أمام والديه أطلقت الوالدة زغرودة من أعماق قلبها فرحا وابتهاجا واغرورقت عينا الوالد بدموع الغبطة والفرح. وفي العام الثاني من حياة الشيخ سيد توفي والده المعلم درويش البحر النجار الفقير، ولم يخلف له إلا بعض الديون والتزام إعالة أمه وأخته. لذلك اضطر الشيخ الصغير أن يقطع مرحلة دراسته، وخلع المسكين عمامته وجبته وراح يبحث عن عمل يعيش من وارئه، وأول عمل قام به هو بيع الأثاث القديم مع قريب له، ثم عمل مساعدا لبائع دقيق، ثم مناولا المونة لأحد مبيضي النحاس.
وكان خلال عمله يترنم بجمال صوته بألحان قديمة معروفة، وكان زملاؤه العمال أثناء سماعهم هذه الألحان يقبلون على عملهم بحماسة ورغبة لا مثيل لهما، فسر به معلمه وأمره أن يكف عن العمل ويكتفي بالغناء فقط، ففرح الشيخ سيد وجلس يغني طول نهاره للعمال ويشجعهم على عملهم، وكان الغناء السائد آنذاك أغاني عبده الحامولي ومحمد عثمان.
كانت هذه الانطلاقة الأولى سببا في شعور الشيخ سيد درويش بموهبته الفنية، ويقال أيضا إنه في العام الثاني من دراسته في المعهد الديني في الإسكندرية وجد على الرصيف عند بائع الكتب القديمة كتابا يبحث في مبادئ الموسيقى ثمنه نصف قرش، فأيقظ هذا الكتاب في نفسه مواطن الموهبة الموسيقية.
وهناك عامل ثالث نبه فيه الشعور بالموهبة هو إعجابه بصوت حسن الأزهري، الذي كان يدعى لإحياء الحفلات الغنائية عند الأغنياء في السرادق، وكان سيد درويش لا تفوته حفلة من حفلات الشيخ حسن حتى تأثر به، وصار يقلده تقليدا بارعا في طريقة غنائه وأدائه، وهذه العوامل الثلاثة بمجموعها تعتبر اللبنة الأولى في بناء حياة الشيخ سيد الفنية ومنطلقه الأول نحو المجد الموسيقى الفني الذي توصل إليه.
الانطلاق في الآفاق
ومع مرور الوقت، لم يعد الشيخ سيد راضيا على أن يقتصر غناؤه على عمال المبيض دون سواهم، بل رغب أن يسمع فنه في سائر مجتمعه، الذي يعيش فيه فترك مهنة المبيض وعاد إلى عمامته وقفطانه، وامتهن الغناء بصورة نهائية، وصار يقلد في غنائه الشيخ حسن الأزهري معلمه الأول.
وكان يؤدي ألحان عبده الحامولي ومحمد عثمان بطريقة جديدة غير معهودة ولا مألوفة على أسماع مواطنيه فلمع اسمه وذاعت شهرته بسرعة فائقة، ولكن هذه الشهرة كانت ضمن نطاق ضيق محدود لم تشبع نفسه الطموحة من جهة ومن جهة أخري إن وارد الحفلات المتقطعة لم يكفه في سد حاجات معيشته وحياته. أراد الشيخ سيد لنفسه في هذه الآونة دخلا ثابتا يعتمد عليه.
فكان له ذلك ولكن على حساب كرامته وصحته ووضعه في الفترة، التي عمل فيها الشيخ سيد درويش على المسارح الرخيصة عرف أمرين لم يكن بهما سابق معرفة، النساء وصياغة الألحان، فالتعارف الأول طبيعي، وأما التعارف الثاني فكان بحكم الموهبة المتأصلة في نفسه وروحه وكلاهما فطري بالنسبة لهذا الفنان الكبير.
كما أن ألمه الكمين في نفسه كان السبب في أن يخرج إلى الوجود بلغته الفلسفية النغمية، فيسحر بجمالها الألباب ويرقص النفوس، إنه ما كان يلحن أغنية حتى يرددها أفراد الشعب والعوالم اللاتي يقمن الأفراح والمسارح الغنائية وموسيقات الجيش والموسيقات الأهلية السر في انتشار الشيخ سيد بين أفراد الشعب هو أن لكل لحن قصة ومناسبة ولكل مناسبة أثرها العميق في نفس الشيخ سيد درويش المرهفة الحساسة.
أول لحن
فأول أغنية لحنها كانت «زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة»، وكانت مناسبة تأليفها على امرأة كان يحبها قالت له هذه العبارة، أبقى زورنا يا شيخ سيد ولو كل سنة مرة، ولحن آخر كان وحيه امرأة غليظة الجسم اسمها «جليلة» أحبها حبا عظيما وغدت إلهامه في النظم والتلحين والغناء، هجرته هذه المرأة وأخذت تتردد على صائغ في الإسكندرية، وعمل لها الصائغ خلخالاً، فغضب الشيخ سيد وفكر بالانتقام من حبيبته وعزوله، وكان أول انتقام من نوعه على الطريقة الموسيقية الغنائية.
شعر الشيخ سيد بتدهوره الاجتماعي إثر غرامة المتواصل من غانية إلى غانية، فقرر أن يترك الإسكندرية وأن يقيم في القاهرة، وفعلا ترك الإسكندرية عام 1917 وقرر الإقامة في القاهرة وفيها تعرف على المطربين والمطربات والفرق التمثيلية، وهنا تغيرت أحواله ودخل في دور الحياة الجدية وشعر بهذا التحسن الذي وصل إليه.
وأنشد آنذاك دوره المعروف يوم تركت الحب كان لي في مجال الأنس جانب، ورجع لي المجد تاني بعد ما كان عني غايب، وأول حفلة أقامها الشيخ سيد في القاهرة كانت في مقهي الكونكورديا، وحضر هذه الحفلة أكثر فناني القاهرة منهم الممثلون والمطربون. وكان على رأس الحضور الفنان إلياس نشاطي وإبراهيم سهالون الكمانجي وجميل عويس، حتي وصل عدد الفنانين المستمعين أكثر من عدد الجمهور المستمع.
وفي هذه الحفلة قدم دوره الخالد الذي أعده خصيصا لهذه الحفلة «الحبيب للهجر مايل» من مقام السازكار، وفيه خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها الجوقة، وكانت غريبة على السمع المألوف، ولذا انسحب أكثر الحاضرين لأنهم اعتقدوا أن هذه الموسيقى كافرة وأجنبية، وأن خطر الفن الجديد أخذ يهدد الفن العربي الأصيل، وبالطبع إن فئة الفنانين المستمعين لم ينسحبوا لأنهم أدركوا عظمة الفن الجديد، الذي أعده الشيخ سيد لمستقبل الغناء العربي.
اشترك الشيخ سيد مع الفرق التمثيلية ممثلا ومغنيا، فعمل مع فرقة سليم عطا الله وسافر معها إلى سوريا ولبنان وفلسطين، وكان لهذه الرحلة أثر كبير في اكتسابه أصول الموسيقى العربية، إذ تتلمذ في حلب علي الشيخ عثمان الموصلي العراقي.
وسافر مرة ثانية مع فرقة جورج أبيض إلى البلاد السورية فأعاد الصلات الفنية بينه وبين موسيقاها، واكتسب من أساتذتها ما افتقر إليه من ألوان المعرفة، ولما عاد إلى القاهرة في هذه المرة رسم لنفسه خطة جديدة في ميدانه الغنائي والمسرحي، فلحن معظم أدواره وموشحاته الخالدة التي عرفت الناس بمدرسته الإبداعية الجديدة.
الموشحات الحلبية ظهر للشيخ سيد أول دور بعد هذه الرحلة وكان مقام العجم «يا فؤادي ليه بتعشق» وكان مقتبسا من موشح حلبي قديم مقام العجم أيضا أخذه الشيخ سيد عن الشيخ عثمان الموصلي، ولكنه لم يستطع في بادئ الأمر أن ينسبه إلى نفسه، وإنما نسبه إلى إبراهيم القباني، وأما ما اشتهر الشيخ سيد في تلحين الأدوار بين الناس عاد ونسبه إلى نفسه، وينسب إلى الشيخ سيد عشرة أدوار واثنا عشر موشحا وأوبريت وطقاطيق أهازيج وأناشيد حاسبة وغيرها.
حازت هذه الموشحات والأدوار على شهرة كبيرة في سائر البلاد العربية، وأصبحت المادة الثقافية الفنية لكل فنان ومتفنن، وأصبح قياس المعرفة الموسيقية هو حفظ ألحان الشيخ سيد وأدواره وموشحاته وأهازيجه، فهو بحق قد أوجد نغمة الزنجران هذا إذا لم تكن هذه التسمية مأخوذة من النغمة العربية القديمة، التي وردت في كتاب الأدوار لصفي الدين عبد المؤمن الأرموي والمعروفة باسم زنكلاه.