لا تكتمل صورة الألعاب الاولمبية الحديثة ومدلولاتها من دون التمهيد في الحديث عن إبراز الجوانب التي أوحت لمطلقها الفرنسي بيار دي كوبرتان، لا بل التطرق إلى شخصية هذا «المصلح الاجتماعي» وسعيه الدؤوب وعزيمته التي لا تلين في سبيل إعادة إحيائها، لأنها تمثل عقيدة راسخة في البناء الاجتماعي.
البارون بيار دي كوبرتان المولود في باريس بتاريخ 1/1/1863، تأثر من خلال مطالعته وثقافته بكتابات البريطاني توماس ارنولد، الذي يعتبر «مربي العصر الحديث». ومن رحم المفهوم الصافي للتربية كمسألة أساسية بنى الشاب الفرنسي تحركه في هذا الإطار وهو الذي فضل لأسباب شتى التوجه إلى هذا القطاع وفضله على الانخراط في السلك العسكري أو الحياة السياسية.. وترك في النهاية أكثر من 15 ألف صفحة من الكتابات والنصوص والأفكار عن التربية الرياضية وضرورتها في المدارس واعتمادها في المناهج الدراسية لتنشئة الجسد والعقل معا، ومن مبدأ المثل القديم «العقل السليم في الجسم السليم».
في سن الرابعة والعشرين، عرف دي كوبرتان بالمجدد في منهاج التعليم الفرنسي، ونقل الكثير عن النظام الانكلوساكسوني اثر رحلاته المتعددة إلى إنجلترا، واستوحى ما يتآلف مع المتطلبات العصرية، وقد جاء في أحدى محاضراته «العالم يتقدم إلى الامام والمكاسب التربوية متعددة وكثيرة وحقولها متشعبة والحاجات للارتقاء في التطور المنشود تحتاج إلى هضم كل جديد ليواكب متطلباتنا، نحن لا ننادي بالتخلي عن العادات والقيم، بل على أهمية مماشاتها مع واقعنا وارتشاف مستقبلنا وتطلعاتنا، وبدلا من أن نكتفي بتعليم أولادنا تسلق الجبال، لنعلمهم الطيران فهو وسيلة عبور وسفر وتنقل سريعة في أيامنا المتسارعة».
صادفت ولادة دي كوبرتان ونشأته مع النكسة العسكرية الفرنسية (1870) فاندفع منذ البداية في حقل الخدمة العامة، وعزز حضوره بدراسة العلوم السياسية، ووجد في التربية والتعليم الحقل المناسب لأعداد قياديين وكوادر قادرة على ألامساك بزمام الأمور، ووجد في أفكار ارنولد والأنظمة التي وضعها والمطبقة بحذافيرها في الولايات المتحدة، السبب الرئيس للنهضة الصاروخية التي يعيشها «العالم الجديد».
زاول دي كوبرتان التجذيف والملاكمة والفروسية والمبارزة، ونظم الندوات والمحاضرات لدعم فكرة الحركة الرياضية في المدارس والجامعات، ولاقت أفكاره الرواج تدريجيا ولا سيما بعدما دعمها من إسهاماته الصحافية في يومية «لو فرانسيه» عام 1887، فانطلقت المسابقات في الجامعات عام 1889.
وفي مناسبة إقامة المعرض العالمي، نظم دي كوبرتان المؤتمر الأول للتربية البدنية والمنافسات المدرسية، فأوفده وزير التعليم آنذاك أرمان فاليير الذي أصبح بعدها رئيس لفرنسا، إلى مؤتمر بوسطن، للتربية والتعليم وجال على المدارس والجامعات في الولايات المتحدة وكندا وسجل الملاحظات وأعد التقارير.
وسبق أن أقر وزير التعليم فيكتور دوروي رياضة الجمباز مادة إجبارية في المدارس عام 1869، وبعد عام واحد دخلت الرياضة في قطاعات الجيش كافة، غير أن المنشآت اللازمة لمزاولة التمارين وإجراء المسابقات لم تظهر قبل عام 1882، وأولها في نادي راسينغ كلوب بري كاتالان، واستاد فرانسيه عام 1883.
وعين دي كوبرتان أمينا عاما للاتحاد الرياضي الفرنسي عام 1890، وفي مؤلفه «التاريخ العالمي» أورد الكثير من ألأفكار في شأن تعميم الرياضة والدراسة، ومنها أن «الدراسة والرياضة يجب ان تكونا في متناول الجميع»، معولا الكثير على الطبقة العاملة (1891).
وبعد هزيمة 1870، كان «البارون» متمسكا بمبادئ السلام باعتبار ان المواجهات الرياضية تذلل العراقيل وتذيب جليد العلاقات، وتقرب وجهات النظر، لذا وجد في الحركة الاولمبية «عقيدة ومذهبا» ولاسيما ان «الرياضي يشرف قومه وموطنه وعلمه، وإحياء الألعاب الاولمبية يعني إحياء التربية البدنية والسلوكية الصحيحة».
أراد دي كوبرتان الرياضة عموما والألعاب الاولمبية خصوصا عاملا مساعدا وداعما للسلام، «ولتكن حركة متنامية تواكب الاختراعات والتقدم الصناعي». وأطلق حملته من على منبر جامعة السوربون عام 1892 في باريس داعيا إلى إحياء الألعاب القديمة التي عرفت «المجد والشهرة أيام الإغريق». وهو رد على الذين وصفوا «حركته» بالمبالغة قائلا: «من يشاهد 30 ألفا يسرعون الخطى تحت المطر لمتابعة مباراة في كرة القدم يتأكد انني لا أبالغ».
ولقيت أفكاره التصفيق والإعجاب من قبل الحاضرين، لكنهم في قراءة أنفسهم اعتبروا انها مجرد «حماسة شاب لا بد أن تهدأ سريعا». لكن البارون عزز مساعيه بجولة في إنجلترا والولايات المتحدة، وحظي بتأييد البروفسور سلوان من جامعة برنستون، وبدعم ثمين من السويد ونيوزيلندا. وفي الاجتماع الذي دعا إليه مندوبي الدول والذي عقد يوم 22 يونيو في جامعة السوربون، جدد البارون ما سبق وأعلن عنه في محاضراته وجولاته، وتأكد أن دعوته ستبصر النور لا محالة ولم يبق سوى تحديد تاريخها في «موطنها الأصلي».
وترافق اتساع الدائرة مع كثرة إقامة المسابقات الرياضية التي حظيت بالإقبال والإعجاب، وسلكت حركة دي كوبرتان الطريق المعبدة في 23 حزيران 1895 تاريخ إعلان إحياء الألعاب الاولمبية، وتشكيل المكتب التنفيذي للجنة الدولية الذي تألف من اليوناني ديمتريوس بيكيلاس رئيسا، ودي كوبرتان أمينا عاما، فضلا عن الأعضاء الجنرال الروسي ألكسندر بوتووسكي، والجنرال السويدي فيكتور بالك والألماني ويلهلم غبهارد، والتشيكوسلوفاكي ييري غوت ياركوفسكي والمجري فيرنك كيميني.
واللافت أن دي كوبرتان أتقن عمله منذ اللحظة الأولى، إذ أعد سلفا للمجتمعين وبدقة التفاصيل والأنظمة وطريقة تنظيم الألعاب. أشهرت اللجنة الاولمبية الدولية وشرعتها التي شددت على التساوي والاستقلالية وعدم التبعية وروح الهواية، «وناشدت» صفاء الروح والأخلاق والجسد المتعافى..
غير أن «أحوال الوليد الجديد» لم تستقم فعاش المد والجزر منذ الولادة القيصرية للألعاب الأولى في أثينا 1896، إلى التعثر «والضياع» في الألعاب الثانية في باريس 1900، والألعاب الثالثة في سانت لويس 1904، حتى استقرت الأمور وانتظم الإيقاع تدريجيا في دورة لندن 1908.
والبارون الذي حلم بالألعاب وحقق أمنيته السامية، حلم أيضا بالتتويج، وإذا كانت «ملكته» الرياضية لم تسعفه على التباري وكسب الميداليات وأكاليل الغار، فقد أطلق المنافسات الأدبية والفنية الموازية في دورة استوكهولم 1912، ومن خلف الكواليس في الشعر والقصة، إذ ان أعماله حملت توقيع الفرنسي جورج هورود والالماني مارتن اسكاباخ.