حين التقيت بابنتي المخرج الراحل الكبير هنري بركات، رندا وجيهان، في تلك القاعة التي خصصت لمعرض احتفائي بابداعات صاحب "دعاء الكروان" و"افواه وارانب"، على هامش "القاهرة السينمائي" قبل بضعة شهور، خرجت من قاعة "دار الأوبرا"، ومشاعر دافئة تغمرني مردها الى ثلاثة أسباب: أولا أنني تعرفت على نسل أحد الرموز المحببين الى قلبي وروحي على المستوى الشخصي، وكعاشق وباحث في تاريخ السينما وصناعها.

السيدتان اللتان ورثتا (غالب الظن) أن "عاشق الصورة" الرقي والثقافة الواسعة واحترام الآخر والشغف والدفء.

وقد اغرورقت عينا جيهان حين طلبت منها أن تصف لي نبأ تلقيها لموت "المعلم بركات" (يستهويني هذا اللقب اذ أجد فيه وصفا لانجازات هذا الرجل في صناعة السينما المصرية والعربية على مدى أكثر من ستين عاما)، وكشفت لي عن تفاصيل سأقوم بنشرها في مقام آخر، واخبرتني رندا عن الحساسية العالية لبركات تجاه الأصوات وقدرته المرهفة على التقاطها، فهو بذلك ليس صانع أجمل صور السينما المصرية، بل هو أيضا، كمتصوف حنون، يعيش في عوالم الهمس والصوت، اضافة الى الومض واللون (اليس هو أفضل من جسد فلسفة طه حسين التي نقلها عبر تغريدة الكروان).


ثاني الأسباب هو أنني اطلعت على صور نادرة هي عبارة عن أفيشات افلام بركات، وصور ترويجية لأفلامه الغنائية، وصوره العائلية منذ أن كان طفلا وصولا الى شيخوخته، اضافة الى صور التقطت له في مواقع التصوير في أفلام محببة مثل "الحرام" و"دعاء الكروان".


لكن السبب الثالث، والذي أثر فيّ بعمق، وقد كنت أبحث عنه، هو تأكدي بعد اللقاء مما لطالما كنت به جازما: فاتن حمامة هي المعشوقة الروحية لهنري بركات. انها التلميذة التي تناديه بالأستاذ لكنها الملهمة التي تجله يحلق في هوامات الابداع وفضاءات الجمال. تثاقلت على رندا وجيهان وحاولت أن أعرف منهما تفاصيل عن لقاءات المعلم بالملهمة، عن ردة فعلها حين علمت بنبأ وفاته في فبراير 1993، عن الكتب التي كانا يسربانها لبعض، كما يتبادل محبان الورود.

كانت فاتن بالنسبة الى هنري، تجسد ملامح المرأة التي يحترمها، هو الذي قدم الى الشاشة أجمل وارق ممثلات مصر.

المرأة في خيال بركات قوية وجميلة ومناضلة وحنونة وذكية، وهي الصفات جميعها التي توفرت في فاتن. أما فاتن، فقد جسد بركات لها صانع المفاتيح التي تستخدمها من أجل اكتشاف طاقات فريدة لموهبتها التمثيلية. تغيب عنه قليلا، تدعم مخرجا هنا وتجرب مع مخرج هناك، يروقها يوسف شاهين تارة، وصلاح أبو سيف تارة اخرى، لكنها، مثل طائر اليمام ذلك في مشهدها على الشاطىء في "ليلة القبض على فاطمة"، تعود دوما الى "شباك هنري".

اصطاد هنري بركات فاتن حمامة في أكثر من 21 فيلما منذ "الهانم" وحتى "ليلة القبض على فاطمة" وهو ما يشكل حوالي ربع الانجاز السينمائي لكل منهما.

أجزم أنهما وصلا الى مرحلة من الفهم المشترك والتواصل العقلي والروحي، جعلتهما يستغنيان عن الكلام، ويفهم الواحد على الآخر بالومى. ثم تبتسم فاتن تلك الابتسامة الراقية الراضية التي تقول بأنها أسعدت هنري مرة جديدة وبأنها أسعدت نفسها لأن جمهورها سيقدر جهدهما.

كان لدى صاحبة "الحرام" تلك الموهبة الفطرية في معرفة حدس الجمهور وما يحب، وهو الحدس الذي دفعها ربما الى الابتعاد عن الأدوار ذات المشاعر الحاقدة أو الناقمة، باستثناء "لا أنام"، حيث الغيرة بدافع الحب والتعلق بالأب.
مساء الأحد 17 يناير، غرد صوت الكروان، في سماء العرب، معلنا عن انضمام الملهمة الى المعلم!