دينيه إيتيان، فنان كبير، أحب العرب واعتنق الاسلام، وأطلق على نفسه إيتيان ناصر الدين. من كبار رجال الفن والتصوير، وصاحب اللوحـات الكبيرة النفيسة التي تحتفظ بها المتاحف الفرنسية الكبيرة، وغيرها من متاحف العالم، واشتهرت باسم "غداة رمضان" في متحف باريس.

المقارنة مع الرسامين الحداثيين مثل هنري ماتيس، الذي زار أيضا شمال أفريقيا في العقد الأول من القرن العشرين، فإن لوحات دينيه متحفظة للغاية، فهو يحب التمثيل والمحاكاة والواقع الاثنوغرافي، في تعامله مع الموضوع.

يمكن وصف معظم أعماله قبل سنة 1900 بأنها "مشاهد بشرية واقعية ومعاصرة". كما زاد اهتمامه بالإسلام، وبدأ برسم الموضوعات الدينية. وكان نشطا في ترجمــة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية، من بيــن أعماله ترجمة لقصيدة ملحمية لعنترة بن شداد سنة 1898.

 

دينيه كما رآه الآخرون

لقد تصدى في كتابه الشرق في نظر الغرب للرد على عدد كبير مــن المستشرقين الغربيين الذين كانوا يتهجمون على الدين الإسلامي عن جهل أو عن فهم سقيم. لقد وصفه الأوروبيون بأنه "خائن الغرب" ومع ذلك كان اختياره هذا نابع عن إيمان منطقي وعميق ودراية تامة.

ترك لنا كتابه الشهير "محمد رسول الله" الذي ترجمه شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود في مارس 1956 ومما قاله في مقدمته: "لقد عاش فنانا بطبعه، كان مرهف الحس، رقيق الشعور، جياش العاطفة. وكان صاحب طبيعة متدينة أيضا".

وقال محمد راسم الجزائر 1974 "إن فنه؛ وإن كان عصره قد تخطاه، إلا أنه يعتبر مرحلة من مراحل الإستشراق الإفريقي..".

أما جان لونوا وهران 1962 فقال عنه: "استطاع دينيه أن يصور الجمال أروع تصوير، وأن يستخرجه من الحقيقة التي لا توجد حقيقة سواها".

وقال لويس بينيديت، محافظ متحف لوكسمبــورغ "أثبــت بريشته في مواطن كثيرة ما كشف به قناع الوهم عن العيون، وما تمكن به من إثبات الحنو؛ كأنه بهذا أو ذاك يشاطر القوم السراء و الضراء".

وقال أحمد طالب الإبراهيمي الجزائر 1975 "لن نكون من المنصفين؛ إذا نحن قلنا بأن دينيه وقع في الابتذال، وراح يبحث عن المناظر الغريبة في الصحراء الساحرة.. لقد آمن دينيه بالديانة الإسلامية إيمانا صادقا، ودخل فيها عن دراية واقتناع".

 

الذاكرة التشكيلية العالمية

لقد فتنته الجزائر بغواياتها الساحرة المتنوعة، فانبرى لتصوير الحياة اليومية، ومختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والدينية بالجنوب الجزائري وخاصة ببوسعادة، وبالضبط بقبيلـة اوْلاد نايل، حيث استقر منذ سنة 1904م، فخلَّد البوسعاديين وحياتهم اليومية بفنية منقطعة النظير، وخلَّف عن الجزائريين تراثا تشكيليــا في شعريــةٍ باذخةٍ واحتفاءٍ جنوني ببهاءِ الألوان الجنوبية الخاطفة بسحرها وبهائها ونورها ونار عِشقها. ولاتزال الذاكرة التشكيلية العالمية تحتفي به إلى اليوم، وتكِنُّ له تقديرا خاصا، ولا يزال رصيده الفني من اللوحات المرسومة محط إعجاب واهتمام في العديد من المعارض التشكيلية الكبيرة والمتاحف العالمية. الحاج إيتيان ناصر الدين اعتنق الإسلام بعد دراسة عميقة

بعد اعتناقه الإسلام سمي باسم: ناصر الدين ديني. وبحضور مفتي الجزائر سنة 1913، نطق إيتيان ديني بالشهادتين، معلنا اعتناقه وحبه وإخلاصه للإسلام والمسلمين عن قناعة وعلم وإيمان لا يتزحزح. وقال يومها مقولته المشهورة، وهو يردد الشهادتين ويعلن إسلامه على رؤوس الأشهاد: "لم يكن اعتناقي الإسلام وليد الصدفة، بل عن دراية تامة، ودراسة تاريخية عميقة طويلة الأمد لجميع الديانات".

أدى فريضة الحج في 24 ديسمبر 1929 ودوَّن رحلته الحجية تحت عنوان (الحج إلى بيت الله الحرام) . قال: أوروبا قد تستطيع أن تحكم إفريقيا بالبارود، إلا أن الإسلام هو يحكم بالروح! وقال: إن الإسلام أثبت حتى الآن استحالة اختراقه، فهل عرف الغرب سر وجود وعظمة هذا الدين؟ ولعل أشهر ما قاله بعد زيارة قام بها عام 1928 إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج: "إن الأهرامات إحدى عجائب الأرض لا يمكن أن تقارن بقبر الرسول (ص) من حيث قوة الانفعالات وعمق الأحاسيس التي تنتاب الكائن أمام هذا الصرح العظيم!"

الاسلام أكسبه القوة

طرأ تحول كبير في حياة الفنان بداية من العام 1913 حينما أعلن إسلامه وغير اسمه من "الفونس ايتيان دينات" إلى "نصر الدين دينات"، ليصبح الرسام الفرنسي المسلم، وقد أحدث إسلامه ضجة في أوساط المعمرين الفرنسيين، وفي أوساط الطبقة الفنية في فرنسا فاتهموه بالخيانة، ولكن نصر الدين دينات لم يعبأ بكل ما أوكل إليه من تهم، وبكل الكلام الذي حيك عنه، ذلك انه اتخذ الإسلام دينا بكل قناعة وهو الأمر الذي اكسبه نوعا من القوة.

بعد الحرب العالمية الأولى عام 1914م صدر للفنــان العديد من الأعمال الرائعة التي لم يلبث الفرنسيون بالرغم من إعجابهم بها أن وصفوه بالخيانة. سافر دينات إلى مكــة المكرمة عام 1929م لأداء فريضة الحج فأصبح الحاج نصر الدين.

لدى عودته إلى باريس عام 1889، عرض دينيه لوحاته التي رسمها عن مدينة "بوسعادة" في المعرض العالمي وفاز بالميدالية الفضية. لكن تأثير الصحراء الجزائرية لم يفارقه، فعاد مرة أخرى إلى "بوسعادة" التي عشقها ليبقى هذه المرة فيها بشكل دائم، حيث تعرف أكثر على تقاليد المنطقة وعادات السكان، وأصبح يتكلم العربية بطلاقة.

 رحلاته إلى الجزائر أنتجت فناً عظيماً

 

ولد "ألفونس إيتيان ديني" بباريس في 28 مارس 1861 من عائلة يرجع أصلها إلى مقاطعة "لوارييه" وكان أبوه محاميا لدى محكمة "السان".. وكان جده المهندس ابن وكيل الملك في "فونتان بلو" أما أمه "لويز ماري أدل بوشيه".. فقد كانت أيضا ابنة محام مشهور.. بعد الباكالوريا تم قبوله في مدرسة الفنون الجميلة بباريس، ولدى تخرجه في المدرسة لقي عمله الأول "الأم كلوتيد" اهتماما كبيرا في أوساط النقاد في صالون عام 1882 بباريس. في عام 1884 منحه صالون قصر الصناعة وساما ثالثا، كما أعطاه بمناسبة هذا التتويج منحة أتاحت له القيام برحلة ثانية إلى الجزائر.

مؤلفاته ووصيته قبل وفاته

ألّف بعد إسلامه العديد من الكتب القيمة، منها كتابه الفذ (أشعة خاصة بنور الإسلام) وله كتاب (ربيع القلوب) و(الشرق كما يراه الغرب) و(محمد رسول الله) و(الحج إلى بيت الله الحرام).. (غادة رمضان). وتوفي وقد بلغ من العمر سبعين عاماً. الوصية التي أعلن فيها رسميا دخوله الدين الإسلامي حينما قال: "هذه رغباتي الأخيرة فيما يخص جنازتي، يجب أن تشيع جنازتي طبقا للتعاليم الإسلامية، لأنني اعتنقت الإسلام بكل إخلاص منذ عدة سنوات، وكرست كل منجزاتي ومجهوداتي لتمجيد الإسلام.. يجب أن تدفن جثتي في المقبرة الإسلامية بمدينة "بوسعادة" التي أنجزت فيها القسم الأعظم من لوحاتي".