كبار المواطنين هم سارية الوطن وشراعه المخضب بالتقاليد والإرث العريق، مداد الأخلاق وحبر الوطنية الخلاصة، فقد كرسوا حياتهم للنهوض بالوطن وبناء أجيال تنبض قلوبهم بالهوية، تقاطعات جيل ما بعد الألفية تشد وثاق سفنها «أدقال» أجيال الاتحاد لتنقلها إلى شواطئ الثقافة العالمية وإيقاعها الذي يتجلى بالمعاصرة والمحافظة على الموروث، فنحن لا نعيش بين زمنين، بل نصنع لحظاتنا بين ذكريات استثنائية وإنجازات تستشرف المستقبل.

 

يؤمن الوالد أحمد بن قيدوه أن جمع المقتنيات التراثية يحتاج إلى جهود كثيفة وعمل مضن، من محافظة وتوثيق ونشر للوعي المجتمعي حول أهميتها المعنوية والإنسانية التي ترتكز على مجموعة من القيم الاجتماعية القديمة والصحيحة للمجتمع في إطار هوية أفرادها الذين أدركوا الغاية والهدف من التواصل، وانعكس ذلك في تفاصيل حياتهم اليومية ومقتنياتهم الشخصية بداية من المرضعة الفخارية، وانتهاء بنقوش مندوس حفظ الملابس التي تعبر عن كل مُركب يشمل العادات والتقاليد والمعارف والفنون والآداب والقيم والمعرفة وكل ما يكسبه الفرد بحكم انتمائه للمجتمع.

حلم متفرد

هذا التشبث العميق بحضارة الأجداد قاد الوالد أحمد قبل أكثر من 25 عاماً إلى هواية جمع القطع التراثية والأثرية من أدوات حرفية، وأسلحة وفخاريات، وغيرها الكثير من القطع النادرة ذات الصلة بالبيت الإماراتي ومحتوياته في كل ركن، وفي السياق يؤكد أن تأسيس القرية التراثية والمعروفة بـ«قرية محمد بن زايد التراثية»، بالتزامن مع احتفالات الدولة باليوم الوطني 42، كان بمثابة حلم متفرد في طموحاته انطلاقاً من فكرة إنشاء متحف مصغر لجميع مقتنياته في جزء من المنزل، ومع زيادة الإقبال والتفاعل الذي ورد من الكثير من الناس الذين سمعوا عن الفكرة وتحمسوا عبر دعمه بالكثير من المقتنيات المتوارثة في عائلاتهم، والتي قد تعود إلى آلاف السنين، لحفظها وعرضها على زوار المكان، لتتطور الفكرة إلى قيامه بشراء قطعة أرض مجاورة لمنزله وبناء قرية تراثية متكاملة عليها.

طريق التجارة

يوضح الوالد أحمد أن إمارة رأس الخيمة تمتلك إرثاً تاريخياً وثقافياً رائعاً وغنياً، حيث جذبت هذه المنطقة السكّان منذ القدم، وأسهم التمازج بين هذه البيئات الجغرافية مع الموقع الاستراتيجي للمدينة التي كشفت الحفريات الأثرية المتعددة عن وجود حضارات متقدّمة تجارياً في هذه المنطقة منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، والتي خلفت وراءها العديد من الآثار التي تعود إلى العصر البرونزي، ما يجعل منها واحدةً من المناطق القليلة في العالم التي سكنها الناس لأكثر من 7 آلاف عام، وتشير الوثائق التاريخية إلى أن سكّان رأس الخيمة قد وصلوا برحلاتهم إلى مناطق بعيدة مثل بومباي والصين وزنجبار منذ زمن بعيد يعود حتى القرن العاشر الميلادي.

توثيق ملموس

وفيما يتعلق بجمع صنوف مقتنيات التراث المادي عبر قريته التي باتت مزاراً لضيوف المنطقة والبعثات الدبلوماسية وطلاب المدارس والجامعات، إلى جانب كبار الشخصيات، يؤكد الوالد أحمد أننا حين ندرك الروابط الحميمة بين التراث المادي واللامادي، سيتأكد لنا أن الفصل بينهما صعب، فالآلات والأسلحة مثلاً توجد في نقطة تقاطع بين نوعية من التراث. فهي تراث مادي بالنظر إلى كونها ملموسة ومصنوعة من مواد محددة. وهي أيضاً، تراث لامادي اعتباراً لخبرات ومهارات صانعها.

شواهد تاريخية

ارتبطت تلك الاكتشافات ذات الصلة بالتراث المادي بتاريخ المنطقة خلال فترات متعددة، وعلى سبيل المثال تركت ثقافة فترة وادي سوق مقبرة ضخمة تضم قبوراً عدة يعود تاريخها إلى 4000 سنة، وهي قبور نادرة، بل فريدة من نوعها في الإمارات، في إمارة رأس الخيمة فقط، ومن جانب آخر يقع في أعلى قرية شمل الحديثة قصر من قصور القرون الوسطى، أما مساكن الفليّة فقد تم بناؤها في القرن الثامن عشر لتكون مسكناً صيفياً للعائلة الحاكمة، وتعد هذه المنطقة ذات أهمية كبيرة في تاريخ المنطقة، حيث شهدت توقيع معاهدة السلام بين مشايخ ساحل الخليج العربي والحكومة البريطانية في صيف عام 1820م.

امتداد حضاري

ويضيف الوالد أحمد أن المعالم التاريخية والآثار الباقية من القرون الخالية تدلّل على عراقة المنطقة وتاريخها الضارب في القدم، وفي كل ناحية أو جهة ثمة أثر وتاريخ لا تزال أطلاله شاهدة على ماضٍ عريق، كما تظهر التسميات، التي ما زال بعضها عالقاً في أذهان أهالي إمارة رأس الخيمة، مثل «جلفار» وغيرها، من خلال ما يروى عنها من قصص وحكايات، العمق التاريخي والتنوع الثقافي والامتداد الحضاري للإمارة، وتواصلها مع ثقافات الشعوب الأخرى المحيطة بها.

مفهوم عالمي

وحول أهمية وجود قرية محمد بن زايد للتراث في منطقة رأس الخيمة، والتي أسسها الوالد أحمد يقول: إن الحفاظ على التراث، كان، ولا يزال، نواة المفهوم الجديد للتراث العالمي الذي يدعم حفظ الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات لكونه تراثاً تبدعه الجماعات من جديد بصورة متجددة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة، وتاريخها، فيؤدي إلى تنمية الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويكسب الناس بالتالي الاحترام المتبادل.

طابع ثقافي

ويضيف الوالد أحمد: نحن بحاجة إلى المحافظة على تراثنا في إطار مفتوح وديناميكي، آخذين بعين الاعتبار أنه لم يتمكن من البقاء في العولمة المتنامية يوماً بعد يوم إلا الطابع الثقافي الفذ، على الرغم من إدراكنا أن التراث الثقافي غير المادي ما هو إلا لغة عالمية سريعة الزوال، إلا أن ارتباط الإنسان بتراثه وحبه له، أديا إلى ديمومته واستمراريته. فعلى سبيل المثال تحتوي القرية على أوانٍ فخارية يعود تاريخ صنعها إلى أكثر من 400 عام، وفقاً لتحليل أجرته باحثة ومؤرخة أجنبية جاءت إلى الإمارات للاستعانة بخبراتها في عملية التنقيب في إحدى المناطق الأثرية في الدولة، وعرجت على القرية التراثية خلال عطلة نهاية الأسبوع، وفاجأت بن قيدوه بتحليلها عندما أكدت له أن هناك قطعاً صغيرة وأواني فخارية يعود تاريخ صنعها إلى أكثر من أربعة قرون.

 

في سطور

تبرز أهمية المتاحف في كونها تشتمل على معلومات تاريخية وحضارية، تساعد المواطنين والباحثين على فهم تاريخ أمتهم، فهي نوافذ ثقافية تطل على الأمس، ومفتاحاً لثقافة المجتمع، وتضم المعروضات والأشياء الثمينة لحمايتها، وعرضها، والاطلاع عليها، وهي إحدى وسائل الاتصال، التي تعرض ثقافة وتاريخ وآثار وتقاليد حياة الشعوب، وتظهر علاقة الحاضر بالماضي، والمتاحف في العلم الحديث أصبحت مركزاً علمياً مهماً يُسهم في نشر وإبراز المعرفة، والعلوم والتعريف بالتراث الإنساني في جميع المجالات.

التراث والتنمية

يؤكد الخبراء أن التراث والتنمية، يمثلان بعض القياسات التي تعكس إرادة لإدماج البعد التاريخي في برامج التنمية، أي مفصّلة الماضي والحاضر والمستقبل الخاص بالمجتمعات، في منطق تحويل وتضامن لأجيال متداخلة. ولأن التراث مورد غير قابل للتجدد، فالإحالة عليه بالحفاظ أو التثمين، تعد واحدة من الصيغ الشرعية المميزة للاستدامة على السلم الكوكبي. فالتراث مورد رمزي قيم، متصل بقوة بسؤال الذاكرة والهوية، وإرادات استعماله من طرف المنتخبين المحليين. لكنه أيضاً، مورد اقتصادي تحت الزاوية السياحية بالخصوص، ذلك أن التراثية صيغة لتثمين الفضاءات والمجالات.

إن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، رهن باستحضار الفضاءات والعناصر كافة التي تتفاعل بهدف تحقيق رخاء الإنسان، الذي يعد عنصراً بؤرياً في كل مشروع تنموي. ومن المداخل الكفيلة بتثمين التراث الثقافي، عبر تجدد الوعي بأهمية التراث في عالمنا المعاصر، الذي يخضع لعديد من التحولات فكرية واجتماعية، القادر على استحضار البعد لثقافي لقيمة موروث الحضارات عبر البحث والتدقيق ومحاولة اكتشاف وتتبع مواطن التواصل بين تلك الحضارات العالمية بهدف خلق أنماط محفزة إلى التسامح واحترام الآخر لتحقيق التنمية المستدامة، وإشاعة قيم العدالة والمساواة، وترسيخ الأمن والاستقرار.

توثيق عالمي

توج التعاون البناء بين الإمارات واليونسكو بإنجاز استراتيجية الحفاظ على التراث الثقافي لدولة الإمارات في عام 2005، ومنذ ذلك التاريخ والتعاون مستمر، والصلات لم تنقطع. ويعكس نجاح الإمارات في تسجيل هذه المفردات ما شهده قطاع التراث من تطور واهتمام في السنوات الأخيرة، وما بات يتميز به من منهجية عالية على مستوى الجمع والرصد والتوثيق وآليات العمل الأخرى. فضلاً عن تحوله من مجرد جهود فردية متناثرة إلى عمل مؤسسي يتسم بالشمولية، وتتوافر له الإمكانيات المادية والخبرات البشرية المدربة، ولا يخفى ما لهذا من فوائد على الصعد كافة، لكونه بوتقة تضم تنوعاً ثقافياً بما يضمن التنمية المستدامة.