ابن أبي زيد، رحمه الله، هو الإمام، العلامة، القدوة، الفقيه، عالم أهل المغرب، أبو محمد، عبد الله بن أبي زيد، القيرواني، المالكي ـ رحمه الله تعالى.

عمار سعيد خادم أحمد بن طوق المري، واعظ أول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، يحدثنا عن هذا العالم الجليل:

ولد هذا الإمام نحو سنة 310 للهجرة، في مدينة القيروان، التي هي مدينة مالكية سنية، كانت مركزاً للعلم والحضارة، إلا أن ولادته وشبابه كانتا في فترة استيلاء العبيديين الفاطميين الملاحدة على هذه المدينة، وكان هؤلاء الباطنيون قد تفننوا في إذاقة أهلها ألوان العذاب، واستفزازهم بأنواع الاستفزازات.

سلك هذا الشاب المبارك في هذه المرحلة، مسلك الانشغال بما يقدر عليه من الخير، وضبط العواطف في التعامل مع واقعه الأليم، فلم يندفع اندفاع تهور، يخسر به دنياه وآخرته، وإنما أقبل على طلب العلم الشرعي، محتسباً صابراً، متأملاً أن يكشف الله عنهم ما حل بهم من كربة.

فكان هذا الشاب متنقلاً بين حِلَقِ القرآن والعلم، آخذاً عن العلماء، مستفتياً ومباحثاً لهم، مدارساً ومذاكراً لأقرانه، منكباً على القراءة والتحصيل، منشغلاً بالعبادة، حتى نبغ بين أقرانه، وشرع في إخراج زكاة علمه: بالتعليم والتأليف.

جلس هذا الشاب النابغة للتعليم في صغره مع مشايخه الذين تلقى العلم عنهم، فكانت له حلقة ـ بين حلق العلماء ـ يعلم فيها الفقه المالكي، في جامع القيروان، الذي هو صرح العلم آنذاك، ومقصد العلماء والطلبة، مع أن سنه حينها كانت نحو 20 سنة، يزيد أو ينقص، ومشايخه الذين قرأ عليهم ما زالوا متوافرين، قد عرفوا فضله، وأجلسوه للتعليم بينهم ومعهم، بل إن بعض مشايخه طلب منه أن يؤلف رسالة في الفقه المالكي، لإقراء صغار طلبة العلم: أصولَ الدين وأحكام العبادات والمعاملات وشيئاً من الآداب، فألف رسالته المشهورة بـ (الرسالة)، أو (رسالة ابن أبي زيد القيرواني).

هذه الحكمة التي تعامل بها إمامنا ابن أبي زيد ـ رحمه الله ـ مع واقعه، حيث ضبط عواطفه، وقادها بشرع الله، بلغ بسببها مبلغاً عظيماً في انتشار علمه، ومعرفة فضله، ساعد على ذلك، تغير الأحوال في بلده، فبعد صبر طويل، وضبط للنفس شاق، تخلصت القيروان من الباطنيين سنة 362 هـ، وعادت الإمارة فيها بعد ذلك تدريجياً إلى أهل السنة المالكية، وكان إمامنا ابن أبي زيد ـ رحمه الله ـ قد بلغ السن التي يتضاعف فيها العطاء، والمكانة التي يشير إليه بها الفضلاء.

ففي مقام التعليم: صار هذا الرجل مقصد العلماء والطلبة، فكان الناس يرحلون إليه من مشارق الأرض ومغاربها، يتتلمذون على يديه، وكان يلقب بـ: (مالك الصغير)، يقول عنه القاضي عياض ـ رحمه الله تعالى: (حاز رئاسة الدين والدنيا، ورُحِل إليه من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه).

وفي مقام التأليف: سارت تواليفه في الأقطار، مسير الشمس في رابعة النهار، وقد ساعد انتشار صيته على انتشار كتبه، قديمها وحديثها، ومنها، بل أشهرها على الإطلاق: (الرسالة)، المشار إليها قريباً، التي كانت أول تآليفه، ألفها وهو ابن 17 سنة، وهذه الرسالة عليها الاعتماد عند المالكية في التفقه إلى يومنا هذا، وما زالت تقرأ في أقطار الأرض في جميع الأزمنة، في حياة مؤلفها، وبعد وفاته التي كانت سنة 386 هـ، وإلى يومنا هذا، أي: بعد أن مر على وفاته أكثر من 1000 سنة، وقد قرأها وأقرأها جمع من أهل العلم في بلادنا في الإمارات العربية المتحدة، في هذه الأيام وقبلها، وقُل مثل ذلك وأكثر في دول المغرب العربي، فأي مبلغ بلغ هذا الإمام ؟!، بل أي علم نشر؟!، وأي إرث ورَّث؟!، بلغ ذلك بإخلاصه لله، عز وجل، فيما نحسب، وبحكمته في التعامل مع فتن زمانه، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.

هذا المشهد العظيم من مشاهد التاريخ، ذكرني بمشهد قريب منه في المعنى، بعيد منه في الزمن، حصل في زماننا هذا، فقد التقيت في دولة من الدول الإسلامية غير العربية، بمدير مدرسة إسلامية، فأخبرني أنهم في أيام تسلط الملاحدة المستعمرين عليهم، كان الناس يستهجنون رؤية شخص يحفظ القرآن، ويطلب العلم الشرعي، ويرونه رجعياً متخلفاً، لا يعرف مصلحته، ويعرض نفسه للتهلكة، فكان والده يشجعه في صغره على حفظ القرآن وطلب العلم، ويقول له: (الله يأخذ ويعطي فاستمر)، فلما انتهى من دراسته الجامعية، وشرع في الدعوة إلى الله، عز وجل، كانت الأمور قد تغيرت، ورجعت البلاد إلى المسلمين، وصار دعاتها وطلبة العلم فيها، هم المثل الأعلى في المجتمع، ونالوا محبة الناس، فعلموهم صلاتهم التي نسوها، وبينوا لهم دينهم الذي كاد أن يندثر، وصار أهل تلك البلاد يتنافسون في إلحاق أبنائهم وبناتهم بهذه المدرسة وأمثالها من المدارسة الدينية.