المعرفة ضوء أشعته متفرقة في الوجود، وهواء ذراته مبثوثة في فضاء الدنيا الفسيحة، وحقيقةٌ كلُّ عِرق من الناس آخذٌ منها بطرف، وربما وقع في خاطر جماعة من البشر أنهم حصَّلوا الحقائق كاملةً، هنا تبرز أهمية الانفتاح بوصفه جسراً تتزاور من خلاله الشعوب وتتلاقح الثقافات، لكنَّ ثمة موهبة لا تتأتى لكل أحد، توجِّه ذلك الانفتاح ليصبح استفادةً وثراءً لا تبعيةً وذوباناً.
على الرغم من أن يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، المتوفى سنة 260هـ، أتقن اللغتين السريانية واليونانية، واستطاع أن يترجم الكثير من الأعمال إلى اللغة العربية، حتى عدَّه ابن أبي أصيبعة من حذّاق الترجمة المسلمين، فإنه لم يكن مجرد تابع للنصوص التي نقلها من لغاتها، بل أبدع في ابتكار أسلوب جديد في ترجماته، يعتمد على الاقتباس وتلخيص الأفكار، وتفسير المصطلحات الغامضة، وصياغتها في صورة تتناسب مع خصوصية الثقافة العربية الإسلامية، ولعل هذه السمة التي تميز بها عن كثيرين ممن عاصروه هي التي منحته سعة أفق ووعياً ثاقباً، فقدَّم إضافات علمية ضخمة في ميادين شتى من المعرفة، شملت الطب والفلسفة والهندسة والفلك، والموسيقى أيضاً.
ويُعدُّ الكندي أحد أبناء ملوك كندة، وينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل الأشعث بن قيس رضي الله عنه، وفي حين أغفلت كتب التراجم الحديث عن ميلاده الذي لا يُدرى تاريخه على وجه الدقة، فإنها تنبئنا بأنه نشأ في البصرة منكباً على حفظ كتاب الله وشيء من الأحاديث النبوية ودراسة العلوم الشرعية والفلسفية، وانتقل إلى بغداد، حيث جالس علماءها الذين أخذ عنهم الطب والحساب والهندسة، وعكف على قراءة الكتب التي كانت متوافرة بين أيدي طلاب العلم في مكتبة بيت الحكمة، ثم توطَّدت علاقته بالخلفاء العباسيين المأمون والمعتصم والمتوكل، وعمل طبيباً في قصر الخلافة، وذاعت شهرته وصار بيته قِبلة للعلم بما حواه من مؤلفات نفيسة.
وقد يصعب على المتتبع سيرة الكندي أن يضع يده على العلم الذي برع فيه أكثر من بقية العلوم، لشدة إتقانه ورسوخ قدمه فيها جميعاً بلا تفاوت ملحوظ، ففي مجال الطب ألَّف كماً هائلاً من الرسائل، أهمها رسائله في «الطب البقراطي» و«أشفية السموم» و«تدبير الأصحاء»، إضافة إلى ترجمته لكتاب «الأدوية المفردة» لجالينوس، وفي الرياضيات كان ذا فضل في وضع أسس الفكرة التي تنص على أن القيم نسبية بعضها لبعض، والتي صاغها آينشتاين فيما عُرف بـ«النظرية النسبية»، وفي الفلك له إسهامات لافتة وكتابات درس فيها نشأة الحياة على الأرض وأوضاع النجوم والكواكب وظاهرتي المد والجزر، إلى جانب ما أثرى به الفلسفة بآراء ونظريات شكَّلت مدرسة خاصة به في هذا المجال، واتبع فيها أسلوب المناقشة والمنطق في العرض والتحليل، ثم استنباط النتائج وتصنيفها إلى صادقة وكاذبة.
وليس غريباً بعد هذا الجهد الفريد الذي خلَّفه الكندي للإنسانية، أن يصف ابن النديم هذه الشخصية العبقرية بـ«فاضل دهره، وواحد عصره في معرفة العلوم بأسرها، وفيلسوف العرب»، كما رأى الطبيب الرياضي الإيطالي جيرولامو كاردانو أن الكندي من الطراز الأول في الذكاء، ويعتقد الدكتور خالد حربي في كتابه «الكندي والفارابي.. رؤية جديدة» أن مؤلفات الكندي تدل على إحاطته بكل أنواع المعارف التي كانت لعهده على اختلافها، إحاطةً تدل على سعة مداركه وقوة عقله.