زايد رجل التحولات وصاحب القرارات في زمـن التحديـات

العظماء لا يرحلون لأنهم يتركون من طيب ذكرهم ما يبقى خالداً أبد الدهر، وتتناقل الأجيال سيرتهم غضّة حيّة كما لو أنهم يعايشونها لحظة بلحظة..

والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان قامة إنسانية باسقة، يفوح عطره على كل من عاصره، فأصبحت يومياته معهم كنزاً ثميناً يتناقلونه بين أبنائهم وأحفادهم ميراثاً عزيزاً يستقون منه ما يهتدون به في الحياة..

هذه صفحة يومية لأناس عاصروا الشيخ زايد بن سلطان يروون أحاديث الفكر والقلب والوجدان ممزوجة بعبق المحبة الغامر.

«زايد الإنسان، رجل التحولات والتحديات، صاحب رؤية وقرار في أصعب الظروف، يحمل في قلبه حباً صادقاً للخير والتسامح، يعطي بسخاء ويحرص على بناء علاقات إنسانية مع العاملين معه، ويقدر فيهم إخلاصهم وصدقهم وأمانتهم، زايد حكاية مجد وتاريخ نرويها للأجيال».. كانت هذه الكلمات العطرة أول ما بادر إلى قوله المواطن سيف سويدان حضيرم الكتبي «بوخلفان»، واحد من أبناء مدينة العين كان له شرف العمل مع المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لمدة تجاوزت أكثر من 35 عاماً، كان فيها سائقا خاصا، عاش اللحظات والتحولات، سمع القصص والحكايات، اختزن في عقله وقلبه ووجدانه أجمل الذكريات، يستعيد بعضاً منها في حوار خاص مع «البيان»، في منزله بمنطقة الهير، حيث كانت الهير منطلق التحولات الشخصية في حياة سيف وأسرته، لا سيما عيال الكتبي.

بداية الحكاية

ضرب لنا «بوخلفان» موعداً للقاء في منزله في منطقة الهير، في يوم ماطر رسمت فيه أمطار الخير والبركة، أجمل لوحة فنية طبيعية فوق كثبان رملية، حيث لكل حبة رمل في تلك المنطقة قصة مع المغفور له الشيخ زايد، فهي ليست مجرد كثبان رملية، بل هي رمز التحولات، فقد شهدت تطورا كبيرا في عهد زايد. وتقع الهير على بعد 60 كيلومتراً على يمين طريق العين دبي، منطقة منخفضة تحيط بها تلال رملية وأشجار النخيل والمسطحات الخضراء شاهدة على التحولات الكبيرة وأهلها الطيبين.

الرحلة بالسيارة استغرقت 40 دقيقة كانت كل الشواهد على الطريق تحدثك عن إنجازات الشيخ زايد، بما فيها طريق العين دبي، الذي حرص سموه على شقه ويعتبر من أهم شرايين شبكة الطرق التي تربط مدينة العين مع بقية مدن الدولة، تستقبلك مدرسة الشيخة فاطمة بنت مبارك، كدليل على الرعاية والاهتمام في تعليم أبناء وبنات المنطقة، تحمل أسماء المنشآت والمؤسسات الحضرية.

على تلة مرتفعة تطل على كثبان رملية ذهبية امتزجت بحبات المطر التي كانت تتساقط لحظة وصولنا، استقبلنا بو خلفان وعياله، في مجلسه الذي تفوح منه رائحة الأصالة والموروث لحظة أن قدمت لنا القهوة العربية قبل بدء الحديث، الذي افتتحه سيف عندما قال: «شايفين وش سوالنا زايد، كل الذي شفتوه على الطريج، هو من عطاء وكرم زايد بعد الله عز وجل».

حفظ الأمانة

ويضيف سيف سويدان: «إننا في منطقة الهير ندين بالفخر والانتماء والوفاء والولاء للشيخ زايد، وبقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، جعلهم الله دائماً وأبداً مبعث فخر واعتزاز ورمزاً للوفاء والسير على نهج المغفور له الشيخ زايد رحمه الله».

وبعد أن ارتشف رشفة من فنجان قهوته، أغمض عينيه وتنهد تنهيدة كبيرة، وقال: «إن العمل مع الشيخ زايد شرف كبير لا يدانيه شرف، وهو أمانة كبيرة وغالية وعلينا أن نحفظ الأمانة، فأن تعمل سائقا لشخص بمقام الشيخ زايد ومكانته، فتلك مسؤولية كبيرة، ويجب أن تكون على قدر المسؤولية، المسألة ليست مجرد سائق، فتلك مهمة يمكن أن يقوم بها أي شخص، بل أنت تعمل مع شخصية ذات مكانة كبيرة، وعليك أن تتقيد بتعليمات وتتمتع بمواصفات خاصة، وتعود قصة عملي تعود إلى 50 عاماً تقريباً، عملت معه أكثر من 35 عاما، كنت فيها الخادم الوفي والأمين».

ويواصل سيف سويدان: «الحكاية تعود للعام 1969، حين كنت أعمل في الجيش، وبعد 3 سنوات وعند تجديد العقد طلبت من خلفان بن مطر الرميثي، كبير المرافقين للشيخ زايد، أن أعمل سائقاً عند الشيخ زايد، وذهبت برفقة خلفان مطر من المعسكر إلى الشيخ زايد في قصر البحر، كان جالساً، رحمه الله، مع عدد من الأشخاص، وبعد السلام عليه، وسؤاله عن أحوالنا كعادته، قال له خلفان: «طال عمرك سيف يرد العمل معاك»، فرد عليه، والبسمة تعلو محياه: «إذا هو يردنا مره، إحنا، نباه عشر»، فوقف مباشرة وقال: «باشر من ها الحين»، وخرجت برفقته في أول جولة إلى منطقة السمحة وصولاً للخزنة، رجعنا بعدها إلى قصر البحر، كانت أول سيارة قمت بقيادتها مرسيدس بيضاء 500.

كان، رحمه الله، متحفزاً دائماً وجاهزاً دائماً، فلا تعرف بأي لحظة يتحرك وإلى أي مكان يريد أن يذهب، كان يضع برنامجه بنفسه، يقرر البرنامج وخطة سيره، عندما نصعد السيارة يخبرنا أنه يريد الذهاب لمكان محدد ليتفقد مشروعا أو زيارة دائرة أو زيارة أحد الأشخاص.

أحيانا يقضي النهار كله وهو يتجول على المشاريع سيما في المنطقة الغربية وفي مدينة العين، كانت الطرقات معظمها رملية واتجاه واحد، وفي سويحان مثلاً لم يكن هناك طريق وزاخر كانت رملة. كان المغفور له يحرص على زيارة أصدقائه في بيوتهم بدون تخطيط مسبق، كانت زياراته تتصف بالحميمية والود ودون تكلف، كثيرا ما كان يشارك في المناسبات الخاصة، ولم يكتف بالحضور فقط، لا سيما حفلات الزواج، كان يشارك في الرقصات الشعبية مع الأصدقاء والشخصيات التي ترافقه، كانت تبدو عليه الفرحة والسعادة.

حفظ الأسرار

قيادة سيارة شخصية مهمة مسؤولية كبيرة، تتطلب مهارات خاصة ويقظة دائما وقدرة كبيرة على حفظ الأسرار، خصوصاً عندما يكون هناك حديث مع شخصيات مسؤولة، ويجب أن يتحلى السائق بالأمانة والوفاء يؤدي وظيفته بإخلاص، وأن يكون يقظاً وعلى أهبة الاستعداد لتأدية أية مهمة توكل إليه، وعلى دراية ومعرفة ببعض الترتيبات الأمنية الخاصة.

كنا مجموعة من السائقين، كل واحد يخدم أسبوعاً وأحيانا نكون اثنين، أذكر منهم: عتيق محمد العمي، خلفان بن سالمين، غدير بن منيف المنصوري، أحمد بن عمار الظاهري، علي بن حليس، كنا شباباً لا يتجاوز أكبرنا 20 عاماً، لم نكن قد تلقينا تعليما، بل تعلمنا في الجيش، حاليا تطورت عملية اختيار السائقين وأصبح لها مهام وصفات، وتقام لها دورات تدريب وتأهيل على مستوى عال.

كان زايد، رحمه الله، يجب المرسيدس في المواكب والزيارات الرسمية، في كل قصر مجموعة من السيارات جاهزة دائما للطلب، فعندما يريد الخروج يطلب السائق أحيانا بالاسم وأحيانا حسب الزام «المناوبة»، لم تكن سيارته بمواصفات خاصة، إنما تأتي من مصنعها بمواصفات عالية الجودة، كنا نقوم بتبديل إطار السيارات، ونضع لها إطارات من قياس 800، حتى تستطيع السير في الرمال، حيث كانت أكثر الجولات في طرق رملية وفي مناطق وعرة جدا، أما في زيارات القنص فيفضل سيارات الرنج والنيسان، وكنا دائما نزود السيارة بدلّة القهوة والتمر والماء وبعض الحلوى.

يقود السيارة بنفسه

كان يحرص أحياناً على قيادة السيارة بنفسه سيما في الزيارات الخاصة، وكذلك المشاريع، فكان يعرف مواقع المشاريع، ويفاجئ العمال والمهندسين بزيارات المواقع ويطلع على مراحل الإنجاز والتنفيذ ويعطي التعليمات والتوجيهات ويطلب من المشرفين بضرورة أن يكون العمل بإخلاص وأمانة.

في الجولات العائلية الخاصة، كان يقود السيارة بنفسه وأحياناً يقودها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فكان يرافقه ويتواجد بجانبه في الكثير من الزيارات والجولات الميدانية، وكانت معظم سياراته بلا أرقام، فقط علم الدولة، باستثناء سيارات المقناص، وكان يحرص خلال المواكب أن لا نعطل السير والتقيد بأنظمة المرور.

وكان، رحمه الله، يحرص على زيارة الأسواق بشكل مفاجئ، يدخل للمحلات والسؤال عن أحوال التجار والأسعار، وأحيانا يقوم بالشراء منهم، وذات مرة، حرص خلال جولة له في مدينة العين أن يقف أمام محلات أحمد السلامي، كان، رحمه الله، يعرف المحل منذ زمن بعيد، فهو من أقدم التجار في مدينة العين وتوقف أمام المحل حتى جاء السلامي للمحل وجلس معه واطمأن على صحته وتجارته.

مع نهاية الحديث، قال «بوخلفان»: منذ اليوم الأول لوفاة زايد، رحمه الله، أنهينا والمجموعة التي كانت معنا من السائقين عملنا وتقاعدنا، وبقي زايد في قلوبنا حكاية زمان ومكان ويسكن في العقل والوجدان، نرويها للأجيال.

لا يحب السرعة

كان يقود سيارته بهدوء، لا يحب السرعة، ويأمرنا أن لا نتجاوز 100 كلم، كما كان لا يحب المكيف داخل السيارة، وعندما نشغل التكييف، يقوم بفتح نوافد السيارة ويقول: «خلنا نشم ريحة ربنا ونتنفس هوا نظيف». ويحرص خلال قيادة السيارة أن يستمع للأخبار من عدة محطات في مقدمتها إذاعة أبوظبي، ويحب أن يستمع لبعض المطربين المحليين، كان يحب الاستماع إلى ميحد حمد، والكليباني، يحب الاستماع للشلات، وكان في قمة سعادته وهو يردد بعض الشلات.

الأكثر مشاركة