العظماء لا يرحلون لأنهم يتركون من طيب ذكرهم ما يبقى خالداً أبد الدهر، وتتناقل الأجيال سيرتهم غضّة حيّة كما لو أنهم يعايشونها لحظة بلحظة..

والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان قامة إنسانية باسقة، يفوح عطره على كل من عاصره، فأصبحت يومياته معهم كنزاً ثميناً يتناقلونه بين أبنائهم وأحفادهم ميراثاً عزيزاً يستقون منه ما يهتدون به في الحياة..

هذه صفحة يومية لأناس عاصروا الشيخ زايد بن سلطان يروون أحاديث الفكر والقلب والوجدان ممزوجة بعبق المحبة الغامر.

 

«لو قضيتُ سنوات في وصف الشيخ زايد لن أوفيه حقه مطلقاً، فزايد مثل الغيث من السماء إلى الأرض كله خير، وأنا أفرح بالكلام عن زايد وأحب أن أظهر ما أعرفه عنه وهو قليل من كثير.. زايد إذا جاء إلى مكان أثر فيه بالخير».. هكذا يتحدث الشيخ مبارك بن قران المنصوري، رفيق درب الشيخ زايد والأخ والصديق الوفي له، عن العلاقة مع المغفور له الشيخ زايد، التي بدأت في مرحلة الستينيات وامتدت حتى رحل القائد المؤسس، ويروي الكثير من المواقف واللقاءات التي جمعته بفقيد الأمة.

اللقاء الأول

ويحكي المنصوري عن أول لقاء له مع الشيخ زايد، فيقول: «كنت في السعودية مع الأهل في الدمام، وكانت لنا أعمال في البحرين، وأرسلوني إلى هناك لأقضي هذه الأعمال، وعندما رجعت إلى الدمام وجدت الأهل قد غادروا فحزنت لأنهم تركوني ولم ينتظروني.. كل ذلك وأنا في خاطري زايد أسمع عنه وأدري به وبأخلاقه وشهامته، فقررت أن أذهب إليه. ولعله كان يعرفني عندما كنت أركب مع والدي على الناقة، كنا نعرفه ونسمع بحبه للخير وأنه يكرم من معه وأنه عزيز، وغير ذلك من صفاته الطيبة، كانت أخلاقه معروفة لنا ولو جلست أتحدث سنوات عن أخلاقه وكرمه ما وفيته حقه».

ويضيف: «عندما وصلت إلى الدمام وعلمت أن الأهل تركوني ظللت أبحث عن شخص في طريقه إلى بلادنا، ووجدت اثنين من الرجال أعرفهم وأخبرتهم بأني أريد العودة إلى أبوظبي وركبت معهم، ولم يكن معي جواز سفر. وانطلقنا من الدمام في رحلة طويلة وصلت في نهايتها إلى العين، حيث لقيته وقدمت له نفسي وحكيت له ما حدث وقلت له جئتك أعتبرك والدي الثاني، مسلماً ومرافقاً وولداً، فقال: «مرحباً.. مرحباً، ولد عند أبوه».. ومن يومها لم أفارقه إلى أن توفاه الله».

ويضيف المنصوري: «تشرفت بزيارة المغفور له الشيخ زايد لي في بيتي مرتين في غياثي، عندما بنيت المجلس عزمته ولم أبالغ في الذبائح، وقلت له: يا طويل العمر لو أن أهل غياثي ذبحوا حلالهم كله ليس بقدرك، فقال: فعلت العدل.. الحب في القلب لأنه ما كان يحب التبذير، فزايد متواضع، ويحب أن يزور الشخص في محله ويطمئن على صحته».

حب بلا حدود

يقول المنصوري: «زايد يحب الإنسان الطيّب ويحب الرفيق الذي يخلص معه، وأنا أخلصت في العمل معه، وهو عرف ذلك، ويحب الشخص الذي يعتمد عليه، والحمد لله أني لم أعمل عند أحد ولم أطمع في أحد إلا في رفقة زايد وشهامته، وهذا ما فزت به ووفقني الله تعالى إليه أني دخلت مع زايد وشاركت في حياته وعرفت طابع زايد وأهله وأبنائه، ولله الحمد على ذلك وأنا فخور بهذا الأمر».

ويضيف: «إن الحياة وقتها كانت بسيطة خاصة في العين، والشيخ زايد ساعد الناس في المزارع وأحضر لهم الماكينات التي تعمل في ريّ الأراضي، فالأموال كانت قليلة، وزايد عندما كانت تأتيه أموال يفيض بها على من حوله، وإذا ذبح الذبائح كان الجميع يصيبه الخير منها وكذلك في رحلات القنص، والحياة في العين كانت أحسن وأسهل من أبوظبي التي كانت عبارة عن صحراء ورمال بيضاء فقط».

ويذكر أنه «ذات مرة كنت مع الشيخ زايد، رحمه الله، وكنا جالسين في رمال بيضاء في أبوظبي، وكان معنا سعيد بن شخبوط، وبن حم، وحمد بن بادي وكنت معهم نتحدث ونتسامر ونحن جالسين على الرمال البيضاء، فقال الشيخ زايد: يا سعيد هل ترى هذه الرمال التي نجلس عليها الآن ستراها بيوتاً ومدارس ومساجد وترى طرق السيارات المرصوفة، ومزارع ونخيلاً وتمراً وكذا وكذا، وأنا أسمع وأتعجب من هذا الكلام والجميع معي يتعجبون؛ لأن ما قاله يحتاج ملايين كثيرة وأموالاً، ووقتها لم يكن معنا شيء!».

ويوم تولى زايد الحكم كان يسير في البلاد شرقها وغربها، وبدأ رحلة بناء وتعمير للدار، وكل ما قاله تحقق ورأيناه بأعيننا.

وذات يوم بعد فترة من توليه الحكم مررنا بنفس المكان الذي كنا نجلس فيه، وذكّرته بما قال وقلت: الله سبحانه أعلم بنواياك وأعطاك عليها.. واليوم كله تحقق لأن نوايا الشيخ زايد كانت طيبة، فقد كان فكر زايد وأعماله كلها للخير، وكثيراً ما كنا نسير في الرمال، وزايد يقول: إن شاء الله هذا يصير طريق مرصوف، وهذه تكون بلاداً، وهنا تكون البيوت.. وكنا نتعجب من قدرته على استشراف المستقبل.. وما قاله تحقق بفضل الله تعالى لأن نيته كانت طيبة.

البناء والتعمير

ويقول المنصوري: «اليوم ونحن نذكر زايد لابد أن تعرف الأجيال القادمة أنه ما كان يفكر إلا في البناء والتعمير، فكان همّه المواطن وكيف يسعده، كيف يبني له البيوت ويمهد الأرض للزراعة والطرق. وكانت وصاياه ألا نترك الإبل ولا نضيعها، بل على العكس نهتم بها ونجمعها، وزايد هو الذي رسخ كل هذا التراث، وأشهد أن كل جديد في البلاد اليوم كان زايد سباقاً إليه».

وبعدما تولى الشيخ زايد الحكم في أبوظبي كانت الإمارة عبارة عن الحصن وعدد قليل جداً من البيوت، ولم يكن بها طرق ولا سيارات ولا دكاكين، فبدأ البناء والتعمير شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ملايين البيوت والطرق والعمارات، حتى صارت كما تراها اليوم وهذه أشياء لا تحدث بالكلام ولكن بالفكر والعمل.

صعوبات

ويشير المنصوري إلى أن زايد واجه كثيراً من الصعوبات في بداية حكمه، منها مثلاً أن الرغبة في التعليم عند البدو كانت ضعيفة، ولكنه ظل مع الناس يقنعهم ويرغبهم في العلم والتعليم، والناس كانت تحبه لصدقه الشديد في كل ما وعد به، فأطاعته ونفذت ما طلبه منهم وسلموا أمرهم لله عز وجل ثم للشيخ زايد، وكثيراً ما كان يمرّ على الأولاد ويحملهم معه في سيارته إلى المدارس في العين.

ويضيف: «بعد ما تولى الحكم كان يسأل الناس عن مطالبهم فمن كان يريد أن يبني له بيتاً في العين أو في المطاوعة أو غياثي أو الظفرة أو في أي مكان كان يذهب معهم ويبني لهم البيوت، وكذلك فعل مع أهل كل منطقة، فمثلاً بعض البدو طلبوا بيوتاً في دلما، وأهل ليوا كذلك وحتى السلع ونفذ لهم كل ما طلبوه، ومن هنا كان حبهم الشديد للشيخ زايد وتصديقهم لكل ما يقول».

كان رحمه الله يجلس مع البدو ويقول لهم سوف نبني لكم البيوت ونأتي لكم بالمعلمين والمدرسين ليعلموكم، وكان يعدهم بالأموال، ويعطيهم المزارع مجاناً كلها كانت حوافز لهم، فكان يعتبر الشعب كله عياله يجب أن يعلمهم ويبحث لهم عن عمل وطعام وشراب لأنه رب العائلة.

ويحكي المنصوري أن أحد الصحافيين قال للشيخ زايد إن ما تفعله مع الشعب سوف يفسده؛ لأنك تعطي كل الناس أراضي ومساكن ومزارع وغيرها بلا مقابل وهو ما سيعوّد الشعب الكسل، لكن الشيخ زايد أنصت باهتمام لما قاله الصحافي وقال له: «إذا كان لديك عشرة من الأبناء ماذا كنت ستفعل معهم في التعليم والمسكن وغيره؟ فرد الصحافي: سأبذل جهدي حتى أوفر لهم المسكن المناسب والتعليم الجيد وفرص العمل الملائمة، فضحك الشيخ زايد قائلاً: هكذا أفعل مع أبنائي، فجميع أبناء الشعب أبنائي».

قيام الاتحاد

ويقول المنصوري: «إن اتحاد دولة الإمارات كان فكرة زايد، فكان يرى أن أي إمارة منفردة ليس لديها القوة الكافية كي تدافع عن نفسها، ففكّر في الاتحاد وكيف يجمع الإمارات، وهذا التفكير ليس بسيطاً، فكيف يجمع 7 حكام على أمر واحد، وبدأ يطرح أفكاره ويرسل إلى حكام الإمارات ويزورهم ويقترح عليهم الاتحاد، فكل إمارة كان بها عدد قليل من الجنود، فقال لهم: كل إمارة منفردة يمكن أن تكون مطمعاً، أما إذا اجتمعنا على أمر واحد فسوف يحسب الجميع حسابنا وهكذا».

ويؤكد المنصوري أن الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، كان أول من استجاب للشيخ زايد، ويوم أعلن راشد موافقته عرفنا أن الموضوع اكتمل، وبعد ذلك توالت موافقة حكام الإمارات على الاتحاد، وتم إعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة.

ولا بد أن نذكر أنه حتى قبل قيام الاتحاد كان كثير من الناس يسمعون كلام زايد ورؤيته وكانوا يتعجبون من كلامه؛ لأن وعوده كانت أشياء صعبة لكنها تحققت بفضل همته وصدقه في مواعيده، ونواياه لأنه يقوم بالعمل مرضاة لله فقط ولا ينتظر شكراً من أحد، وكان يقول في كلامه: إذا أراد الله فعلنا كذا وكذا، فكان يستعين بالله على كل أمر يريده.

رحلات القنص

ويحكى المنصوري أنه ذهب مع الشيخ زايد في رحلات قنص إلى أماكن كثيرة، إلى المغرب وحدود عُمان، ويذكر أن أول رحلة قنص كانت إلى باكستان مع 4 من الأصدقاء، ولم تكن معهم سوى خيمة واحدة، وتمسك زايد أن ينام الأربعة في خيمته، وهو رئيس الدولة.

يقول المنصوري: «رأيت في هذه الرحلة من التواضع والأخلاق والكرم في الشيخ زايد الكثير والكثير، لم يكن يأكل من صيده، حتى يشاركه الجميع، ويتقاسم كل شيء مع رفاق دربه، مترفعاً عن أوهام الكبر، وكثيراً من الناس في البلاد الأخرى كانوا يأتون إليه في رحلاته ويقابلونه بالمحبة، وكان يكرمهم».

ويضيف المنصوري: «لذلك في أي مكان تذهب إليه تجد بصمة للشيخ زايد وتجد له فعل خير ليس فقط في بلادنا بدولة الإمارات ولكن حتى خارج البلاد، كان الشيخ زايد، رحمه الله، إذا سمع بكارثة خارج الدولة سارع بإرسال الإغاثة مهما تكلفت للمسلم ولغير المسلم؛ لأنه كان يحب الخير للعالم كله، ويحب العدل في كل مكان ويفرح به».

سيرة

ولد مبارك المنصوري عام 1939 في منطقة الظفرة. ومنذ شبابه كان من أقرب المقربين للمغفور له الشيخ زايد، ويعتبر الأخ والصديق الوفي الذي كسب ثقة المغفور له، وشغل منصب رئيس لجنة المصالحة التابعة لدائرة القضاء بالمنطقة الغربية منذ 2007، وهو عضو في المجلس الاستشاري الوطني. حصل على وسام أبوظبي الذي يمثل أرفع تكريم مدني للشخصيات التي كان لها إسهامات في مختلف المجالات، كما حصل على جائزة أبوظبي في مارس 2018.