لَمَّا أعلن سيِّدنا إبراهيم عليه السلام براءته من أبيه ومن قومه، لإصرارهم على الشرك، ورَفضِهم اتِّباعَه ليسلك بهم سبلَ الرَّشاد، ثمَّ فارقَهم مهاجرا إلى الله تعالى، سأل ربَّه سبحانه أن يعوِّضَه بالذرِّية الصالحة الطاهرة، المعينة له على إقامة شعائر الدِّين؛ المطيعة لأمر الله تعالى، المتبعة سَبيلِه، الحريصة على مرضاته {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 99-100]، واستجاب الله تعالى لدعوته؛ فوَهَبه على كِبَر السنِّ أبناءً صالحين{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
وقد اصطفى الله تعالى سيِّدنا إبراهيمَ عليه السلام ليكون خَليلَه، وجعله إماما للناس يُقتدَى به، وكان أعظم ما امتُحن به سيِّدنا إبراهيمُ عليه السلام في طاعته لأوامر الله تعالى وتصديقه لقضائِه وتسليمه لحُكمه؛ ما كان من قصَّة قيامه بتنفيذ أمره تعالى له بذَبح ابنه البِكرِ إسماعيل، وتقديمه قربانا لله سبحانه، راضيَ النفس، مطمئنَّ الضمير، غيرَ ساخطٍ ولا نادمٍ ولا متذمِّرٍ، وإنَّها لمِحنةٌ ما مرَّ بمثلها أحدٌ من العالَمين غير سيِّدنا إبراهيم عليه السلام.
فكيف جَرَت تفاصيل هذه القصَّة؟
الغلام الحليم
نشأ سيِّدنا إسماعيل عليه السلام وتَرَعرع في مكَّة المكرَّمة شبهَ يتيم تَحت جَناح أمِّه هاجر عليها السلام، بعيدا عن كَنَف أبيه؛ بعدَ أن أمرَ الله تعالى سيِّدنا إبراهيمَ بأن ينقلَه عندما كان رضيعا بصُحبة أمِّه إلى تلك الدِّيار المقدَّسة؛ حفاظا عليهما من غيرة سارةَ.
وكانت مكَّة المكرَّمة وقتها أرضا جَرداءَ خاليةً من أيِّ أثرٍ للحياة، ودعا ربَّه سبحانه أن يميل إليهم أفئدةً من الناس ليكونوا لهم عونا على شَظَف العيش، واستجاب الله تعالى له؛ فكانت قصَّة بئر زَمزم وسُكنى قبيلة جرهم بقُربه ضيوفا ثمَّ أعوانا وأنصارا للسيِّدة هاجر وابنها عليهما السلام، وكان سيِّدنا إبراهيم عليه السلام يزورهما بين الحين والآخر ليطمئنَّ على أحوالهما.
بناء الكعبة
مرَّت السنوات، وماتت هاجر عليها السلام، وبَلَغ سيِّدنا إسماعيل مبلغَ الرِّجال، وتزوَّج من قبيلة جرهم، وجاءَ سيِّدنا إبراهيمُ يزوره على عادته، فقال له: (يا إسماعيلُ، إنَّ الله أمرني بأمرٍ). قال: (فاصنَع ما أَمَرك ربُّك) - وفي روايةٍ: (أطِعْ ربَّك) - قال: (وتُعينني؟)، قال: (وأُعينُكَ)، قال:
(فإنَّ الله أمرني أن أَبنيَ ها هنا بيتا)، وابتدآ ببناء الكعبة المشرَّفة، وكان سيِّدنا إبراهيم عليه السلام يتولَّى البناءَ، وسيِّدنا إسماعيل يَسعى بينَ يدَيه يجمع له الحجارةَ، فكان حالهما كما بيَّنه لنا الله تعالى بقوله الكريم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129].
ولمَّا انتهيا من بناء البيت جاءهما الأمر الإلهيُّ برعايته، والقيام على خدمته {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، وبعدَ أن أصبحَ سيِّدنا إسماعيل عليه السلام عُكَّاز أبيه الشيخ في السعي والعمل على طاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره؛ كانت الحادثة.
كما بيَّنها الله تعالى بقوله الكريم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 101-111].
تصديق الرؤيا
لَمَّا كان سيِّدنا إبراهيم وابنه عليهما السلام، قد سألا الله تعالى أن يَجعلهما مُسلمَين له، طائعَين لأوامرِه، مُنقادَين لمشيئته، وأن يُريَهما مناسكَهما؛ استجاب سبحانه دعوتهما بهذه الحادثة، فامتحَن تسليمَهما، وأراهما مَنسكَ النَّحر بأن يُضحِّيا بأعزِّ وأغلى ما يملكان {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فقد رأى سيِّدنا إبراهيم عليه السلام في المنام أنَّه يذبح ابنَه قربانًا لله تعالى.
وتكرَّرت عليه الرؤيا، وهو يعلَم أنَّ رؤيا الأنبياء شكلٌ من أشكال الوحي الإلهيِّ إليهم، وأنَّها جزءٌ من أجزاء النبوَّة، لكنَّ الرُّؤى منها ما يُحمَل على ظاهرِه، ومنها ما يحتاج إلى تأويلٍ وتعبيرٍ؛ لذلك أخبرَ سيِّدنا إبراهيمُ عليه السلام ابنَه برؤياه، فأجابه سيِّدنا إسماعيل عليه السلام بما اعتاد أن يجيبَه به فيما يتعلَّق بالوحي الإلهيِّ: (افعَلْ ما أَمركَ به ربُّك)، ووعدَه بأنَّه سيجده صابرا على الطاعة والاستسلام لأمر الله تعالى.
وحين اتَفقت كلمتهما على أنَّ الرؤيا مقصودةٌ بظاهرها؛ توجَّها لتنفيذ أمر الله تعالى، واستلقى سيِّدنا إسماعيلُ بين يدي سيِّدنا إبراهيم عليهما السلام على جنبه، ملصقا صفحةَ وجهه الشريف إلى الأرض، مادَّاً عنقَه، ساكنَ الأعضاءِ، كما تستلقي الذبيحةُ عندما يُذكَر عليها اسمُ الله ليُضحَّى بها، ولما ابتدأ سيِّدنا إبراهيم بحزِّ عنقِ ابنِه، جاءَه النداء الإلهيُّ بأنَّك قد أدَّيت ما عليك من الواجب.
ووفَّيت بالطاعة التي بأدائها نصرف الشدائد والمكاره عن عبادنا المحسنين، وأنَّك قد نجحت في الابتلاء الأصعب والامتحان الأكبر (المبين)، ثمَّ كان الفداءُ العظيم، فأرسل الله تعالى إليه كَبشًا ليذبحَه مكانَ ابنِه، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (الصَّخرةُ التي بِمنًى بأصل ثَبير، هي الصَّخرة التي ذَبَح عليها إبراهيم فداءَ ابنه، هبَط عليه من ثَبير كبشٌ أَعين أَقرن له ثغاءٌ فذَبَحه، وهو الكبش الذي قرَّبه ابن آدم فتُقبِّل منه، فكان مخزونا حتَّى فُديَ به).
الدروس والعبر
يستفاد من قصة سيدنا إسماعيل مع خليل الله تعالى الكثير من العبر والدروس، أبرزها التسليم المطلق لأمر الله تعالى، فشأن المسلم مع ربه شأن عبودية لله تعالى، ومن مقتضى العبودية ان لا يعلو على امر الله تعالى شيء وقد كان من قولهما (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128) والإسلام انقياد لما امر الله تعالى به وخضوع لما نهى عنه.
درس آخر نتعلمه من هذه القصة وهو ان سيدنا إبراهيم بلغ في محبته لله تعالى مرتبة الخلة، وهي مرتبة من الحب لا تقبل الشراكة فيه، وقد جاء البلاء اختبارا لخلة ابراهيم فيا اذا تغيرت بمجيء الولد البار فصار يحبه مع الله، ام ان حب الله هو الغالب، ومن هنا جاء امر الله تعالى بذبحه، فكان حب ابراهيم لله اكثر من حبه لولده. «فخَلَصَتِ الخلة حينئذٍ من شوائب المشاركة، ولم يبق في الذبح مصلحة».
كما يستفاد كذلك أن المحن تعقبها المنح، إذ لَمَّا انقَضَت محنة البلاء المبين، وتجلَّت عن تَمام الطاعة، كافأ الله تعالى سيِّدنا إبراهيم عليه السلام بأن بشَّره بسيِّدنا إسحاق عليه السلام نبيّا صالحا، نافلةً وزيادةً على ابنِه الصالح الأوَّل؛ فقال سبحانه بعدَ قصَّة الذبيح: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 113]، أمَّا سيِّدنا إسماعيل عليه السلام؛ فقد خصَّه الله تعالى بتسجيل ذِكره في القرآن الكريم بامتيازٍ ظاهرٍ؛ فقال سبحانه:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54-55]، وفضَّله بأن جعل خاتم الأنبياء محمَّدا صلَّى الله عليه وسلَّم من ذرِّيته، فقال رسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم: (بُعثتُ من خَير قُرون بني آدم، قَرنا فقرنا، حتَّى كنتُ من القَرن الذي كنتُ فيه)، أيْ: إنَّ الأبناء إذا كانوا اثنَين أو أكثر كان عليه الصلاة والسلام في صُلب خيرهم وأفضلهم، والله أعلم.