إن المتأمل في قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) (العنكبوت14) يلاحظ وجود لفظين مختلفين يؤديان معنى واحداً، فلفظ (السنة) ولفظ (العام) لفظان يدلان على مدة زمنية واحدة.

وهذه الظاهرة تسمى عند أهل اللغة الترادف اللفظي، وبعضهم يُعبر عنها بالفروق اللغوية. وقد اختلف أهل اللغة حول حقيقة وجود الترادف في اللغة بين مثبت ومنكر، والذي يعنينا في هذا المقام أنه مما لا شك فيه وجود فرق دقيق بين الكلمات المترادفة، يقول ثعلب

: (لا يجوز أن يختلف اللفظ، والمعنى واحد لأنّ في كل لفظة زيادة معنى ليس في الأخرى). وحتى نفهم الفرق بين هذه الألفاظ المترادفة لا بد أن ننظر إلى السياق الذي جاءت فيه، سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية أو من خلال تتبع كلام العرب.

قاعدة

ولو طبقنا هذه القاعدة على كلمة (السنة) لوجدناها ترد في القرآن الكريم في مقام الشدة والتعب وطول العذاب، ومن هذه المواضع قوله تعالى عن قوم موسى لما خالفوا أمر نبيهم عليه السلام: (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) (المائدة 26)، هذه الكلمة اختصرت كل معاني البؤس والتشرد الذي يمكنك تخيله. كما وردت هذه الكلمة في حق فرعون وملئه، وذلك في قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذَّكرون) (الأعراف 130)، وجاءت أيضاً في محنة يوسف عليه الصلاة السلام في السجن، قال تعالى:

(فلبث في السجن بضع سنين) (يوسف 42)، وكذلك قال جلَّ شأنه في المدة التي مكث فيها الفتية في الكهف: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً) (الكهف 11)، وقال أيضاً: (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا) (الكهف 25)، كما أن لفظ السنة ورد في سياق مدة العذاب الأخروي، قال تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون) (الحج 47).

أضف إلى ذلك كله أنَّ النبي الكريم عليه الصلاة والسلام استخدم لفظ السنين في موضع الشدة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) (رواه البخاري)، ولم يقل عليه الصلاة والسلام أعواماً كأعوام يوسف لأن السنين تدل على الشدة كما قدمنا.

أما لفظ (العام) فقد ورد في الخير والرخاء ومنه قوله تعالى: (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) (يوسف 49)، وقد ذُكرت هذه الآية بعد سنين الشدة السبع المذكورة آنفاً.

معاناة

إذا تقرر ذلك كان معنى الآية في سورة العنكبوت أن نوحا عليه السلام دعا قومه ألف سنة مع ما يكابده فيها من العناء والمشقة، فقد كان يدعوهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، إلا أنهم أصروا على كفرهم واستكبروا استكباراً. إلا أن الله عزَّ وجل استثنى من تلك السنين خمسين عاماً لم يكن فيها دعوة ولم يكابد فيها شدة، وهي الأعوام التي قضاها نوح عليه السلام مع من نجا من قومه بعد الطوفان فعبر عنها بالأعوام ليصير زمن الدعوة تسعمائة وخمسين سنة من الشدة والعناء، يليها خمسون عاماً من الراحة والرخاء.

وفي ذلك قال ابن عطية: (وعبر بلفظ سنة ذماً لأيام الكفر، وقال: (إلا خمسين) فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة، وقال عاما إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً بإيمان المؤمنين وخصب الأرض). وقال الألوسي في تفسيره: (والنكتة في اختيار السنة أولاً أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى من قومه).

تفسير

وقد يقول قائل إن هذا المعنى لا يناسب قول الله تعالى في سورة البقرة: (أو كالذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام..) (البقرة 259)، وليس في الآية ما يدل على الشدة أو الرخاء، ومثل ذلك قوله تعالى:

 (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) (التوبة 28) وقوله تعالى في نفس السورة: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما) (التوبة 37)، وقوله تعالى: (وحمله وفصاله في عامين) (لقمان 14).

والجواب عن هذا الإشكال أن الفرق بين العام والسنة لا يقتصر على مسألة الشدة والرخاء، بل من الممكن أن يكون هناك فروق أخرى يقتضيها السياق.