شهر رمضان الكريم شهر بركة ونعمة، تطال نعمه كل من توجه إليه بحب وطاعة رغبة في الاقتراب من الخالق عز وجل، فتحل البركة في العمل وتتأصل العلاقات البعيدة، وتتوهج الملكات الخامدة في خضم انشغالات الحياة، فيشع الإبداع في بحر النشاط والعمل الذي يسري بكل حيوية في قلوب الصائمين الصادقين في إيمانهم.
الدكتور حمد بن صراي، أستاذ التاريخ في جامعة الإمارات العربية المتحدة، يعتبر رمضان شهر الإلهام التاريخي، فنشاطه في مجال التأليف والبحث يتضاعف، حيث تؤثر السكينة الروحية التي تعم الأجواء على ملكاته، فيتدفق النشاط في شرايينه ليس على مستوى العمل فقط، بل والعلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة ومحيط الأصدقاء والمجتمع.
جبل الدكتور حمد بن صراي على حب التاريخ منذ الطفولة، وكان لصيق جديه اللذين عاصرا سنوات من الحياة امتدت لما قبل عام 1880م، حيث توفي جده الشخصية المعروفة في رأس الخيمة «بن صراي» عام 1991م عن عمر يناهز الـ115 عاماً، وهو في تمام صحته وذاكرته التي نقلها إلى حفيده الحبيب والقريب حمد، الذي حمل لواء النقل والبحث في جذور التاريخ ليكتشف جمال هذا الجانب المهم في الوطن.
بدايات تاريخية
ولد الدكتور حمد بن صراي في النخيل بمنطقة «الجويس» برأس الخيمة، وهو الولد البكر لوالده والحفيد الأول للعائلة، الذي حظي بالرعاية والدلال والمحبة الكبيرة من قبل جده لوالده بن صراي، تاجر الأسلحة المعروف في رأس الخيمة ذلك الوقت، وجدته موزة بنت محمد اليماحي، حيث عاش في كنفهما في حضن العائلة الممتدة التي لم يفارقها إلا عند زواجه وانتقاله للعمل معيداً في جامعة الإمارات.
صيام الأبطال
يذكر حمد أيامه صيامه الأولى في رمضان حين كان عمره ثماني سنوات، والتي كانت تحظى بتشجيع من العائلة وحث من جده بن صراي، فبدأ بصيام منتصف اليوم ثم ثلاثة أرباعه إلى أن انتصر على نفسه وصام اليوم كاملا، وسط تصفيق الأهل وإشادة الأقارب..
مؤكدا أن الصيام كان يتخلله في البدايات بعض «الغش» حيث كان يستغل تسلقه للنخل العالي لاقتطاف البلح، لأكل بعض الثمرات، إلا أن جده كان يكشف على لسانه ليكشفه بسرعه ويحظى بضربة تعلمه الالتزام من جديد بالصوم.
رمضان المقيض
وبين بن صراي أن رمضان الماضي كانت تتغير تفاصيله فكان يتلون بألوان الشتاء والصيف حيث المقيض في أراضي النخيل وفي بيوت السعف، يحلو السمر في اليوم الطويل، ويذهب الصائمون كبارا وصغارا إلى أحواض الماء في مزارعهم لتبريد أجسامهم من حر الصيف، أو يغمرون «الغترة» بالماء ويتدثرون بها لتلقي عليهم بعضا من برودة المياه..
وكان الماء المدخن بالمسك المشروب المفضل تلك الفترة والمنعش في حر الصيف، فكان بحق «فيمتو الطيبين»، أما في فصل الشتاء فالصيام أبسط وأيسر، ورغم اختلاف بعض الأطعمة المقدمة إلا أن طبقي الهريس والثريد أساسيان في كل مائدة، ولا بد أن تكون معدّة في منزل الأهل.
جدي الفخور
يتحدث حمد باستفاضة عن إعجابه وعلاقته الحميمة بجده، الذي علمه حب التاريخ وكان معلمه الأول، وكان فخورا بشغفه في القراءة والاطلاع منذ صغر سنه، حيث كان يجمع الكتب في صغره ويقرأها ويلخصها لجده ليتناقشا معا في مختلف المجالات الدينية والأدبية والتاريخية..
فقد كان جده مثقفا وذا ذاكرة واسعة، مبينا انه قد جمع مكتبة صغيرة في منزله كان جده يستعرضها بفخر لأصدقائه قائلا «هذه مكتبة حمد»، وحرص جده على حصوله على العلم منذ صغره فكان يصحبه يوميا إلى المدرسة.
الشيخ صقر
وأما عن أهم الشخصيات التي تواصل معها الدكتور حمد في صغره فهم كثر كما يقول، حيث كان جده حريصا على اصطحابه معه إلى كل مكان سواء للصلاة او لزيارة المجالس، مثل مجلس الشيخ صقر حاكم رأس الخيمة، رحمه الله، الذي كانت تربطه به علاقة وطيدة..
وكان حريصا على أن يسأل ويتواصل معه ويصف جده بأنه إنسان ذكي، فقد كان جده شغوفا بالتعلم والبحث في الأجهزة والأسلحة رغم ندرتها تلك الفترة، ومن المواقف المعروفة عنه أنه أصلح طائرة إنجليزية سقطت في إحدى مناطق رأس الخيمة رغم عدم دراسته العالية، كما صنع مروحة هواء تعمل بالديزل.
روحانيات عالية
وعن طقوس العبادة في شهر رمضان الكريم في الماضي ذكر بن صراي أن الجيل السابق كان بسيطاً في علمه ودينه فلم تكن تقام سوى صلاة التراويح كل يوم، أما في الأيام الأواخر فكانت تقام صلاة العكوف «التهجد» وكان من الأئمة المعروفين في ذلك الوقت سلطان بن عبد الرحمن الشرهان..
وعبيد بن عيسى، وحسن بن صالح الظفير، مؤكدا أن القلوب كانت واسعة بالإيمان والأرواح متقاربة، بينما الآن رغم كل العلم والفعاليات الإيمانية التي تقام في كل مكان إلا أن القلوب أصبحت أضيق والأرواح متباعدة.
رمضان اليوم
في أيام رمضان اليوم يعيش دكتور التاريخ أجمل لحظات الصوم مع عائلته، فلا تحلو سفرة الصوم إلا بوجود العائلة وبين الأبناء، إلا عند دعوته للإفطار في بعض المناسبات، كما أنه يخصص يومين في الشهر للإفطار في منزل والدته أحدهما آخر يوم من الشهر الفضيل.
وخلال الشهر يزيد الإنتاج لدى الدكتور حمد يعكف على التأليف والبحث التاريخي، ومن بعد صلاة التراويح يتوجه يومياً لمجلس صديقه الدكتور عتيق جكة، حيث يجتمع بالأصدقاء الذين تحلو معهم مشاهدة ونقد البرامج التلفزيونية إلى وقت السحور.