توقف قليلاً القارئ الكريم، وحتى لا يسرقك هذا العنوان بعيداً إلى نظرية المؤامرة، وأن «فيفا» يجامل المنتخبات الأوروبية، فليس هذا هو المقصد، فالمقصد هو متابعة الواقع الذي أفرزته مجاملة «فيفا» لمنتخبات أميركا اللاتينية الذي أدى في النهاية إلى إضعافها، وفتح باب البطولة الكبرى أمام المنتخبات الأوروبية التي تزداد كل يوم قوة مقارنة بنظيرتها من أميركا اللاتينية.

وبعيداً عن الخيال قريباً من الواقع، من هذه الزاوية تعالوا ننظر إلى ما كشفت عنه منافسات المونديال الحالي، وهل هي نتيجة مفاجآت، أم تقرير لواقع بدأ منذ فترة طويلة، ويصر العالم على إنكاره، ويعمد الاتحاد الدولي لكرة القدم إلى تجاهله، حتى يواصل في مجاملاته التي وضعت البطولة التي يفترض أنها الأقوى لكرة القدم على مستوى المنتخبات في حافة الهاوية.

خرجت البرازيل، ومن قبلها أوروغواي والأرجنتين، وكولومبيا، وبيرو، كلهم غادرو قبل الوصول إلى المربع الذهبي، منهم من غادر مبكراً جداً، ثم تساقطت منتخبات القارة اللاتينية في بقية الطريق، بل ومنذ اليوم الأول لتصفيات نصف النهائي حسمت أوروبا اللقب لصالحها للمونديال الرابع على التوالي، حيث تكرر البطل الأوروبي في 2006، ثم 2010، و2014، وأخيراً في 2018 من غير أن نعرف من سعيد الحظ يوم الأحد المقبل، ولكننا نعرف حقيقة واحدة أنه سيكون منتخباً أوروبياً.

هل ما حدث مفاجأة أم هو واقع معاش يرفض الكثيرون خاصة في وطننا العربي الاعتراف به استناداً إلى تاريخ، ما عاد له مكان في عالم كرة القدم، ولعل هذا التاريخ نفسه، وأشياء أخرى هي التي تدفع الاتحاد الدولي لكرة القدم لأن يمنح القارة اللاتينية أربعة مقاعد ونصف المقعد، وغالباً ما يتأهل المنتخب الخامس الذي يواجه بطل منطقة أوقينا، كما حدث مع منتخب بيرو في المونديال الحالي، لتمثل قارة في المونديال بنصف عدد منتخباتها تماماً.

هذه السهولة في الوصول إلى البطولة الكبرى على مستوى المنتخبات أضعفت من المنافسة الداخلية في أميركا اللاتينية، حيث بات الوصول إلى كأس العالم ميسراً للغاية، ولعل ذلك ما أدى إلى حرمان منتخبات القارة اللاتينية من أن تزداد قوة، بل هي تتراجع مع الزمن، وكلما زادت عدد مقاعدها في المونديال، ضعفت المنافسة الداخلية المؤهلة إلى البطولة الكبرى، وتبع ذلك تراجع في نتائج المنتخبات اللاتينية في المحفل العالمي الكبير.

تاريخ

الكثير منا ينظر إلى المنتخبات اللاتينية من وجهة نظر تاريخية، وليس كما يقول الواقع الآن، فالقارة اللاتينية تملك 9 ألقاب في المونديال، ولكن هنا علينا أن نقف قليلاً، فسبعة من هذه الألقاب جاءت قبل عام 1990، فباستثناء لقبي البرازيل 1994 و 2002، فان آخر ألقاب القارة اللاتينية كان في عام 1986 بواسطة الأرجنتين، وقبله كان لقب 1978 بواسطة منتخب التانغو نفسه على أرضه، وقبل ذلك الفترة الذهبية للبرازيل التي حصلت على اللقب ثلاث مرات خلال أربع بطولات في الفترة من 1958 وحتى 1970، أما ألقاب أوروغواي، فكانت في النصف الأول من القرن الماضي.

ولكن كم مرة حصلت أوروبا على اللقب منذ عام 1982، وحتى مونديال اليوم، سنجد أنها حصلت على سبعة ألقاب، بينما الألقاب اللاتينية خلال هذه الفترة وصلت فقط إلى 3 ألقاب، اثنان للبرازيل ولقب للأرجنتين، ولا مكان لأوروغواي أو أي منتخب آخر من أميركا اللاتينية، باستثناء البرازيل والأرجنتين في المباراة النهائية للبطولة منذ عام 1950.

هذا هو الواقع، وإذا أراد فيفا أن يتجنب المزيد من التراجع اللاتيني عليه أن يعيد القوة إلى منتخبات القارة اللاتينية بدلاً عن المساعدة على إضعافها، بمجاملته لعشرة منتخبات يستحق التواجد منها فعلياً في البطولة اثنان أو ثلاثة، ولكن نصف قارة في البطولة الكبرى هو أمر تدفع ثمنه كرة القدم التي تبحث عن المزيد من القوة في المنافسة.

نتيجة منطقية

النتيجة المنطقية للتواجد شبه المضمون للمنتخبات الكبرى في القارة اللاتينية بفعل الفرصة الواسعة للتأهل جعل من مهمة هذه المنتخبات في التصفيات نزهات لا أكثر، وحتى عندما يواجه منتخب منها التعثر، يمكن أن يتدارك الأمر في النهاية، فالفرصة واسعة، والمنافسون الفعلون محدودون، وتأتي المنتخبات اللاتينية إلى البطولة الكبرى من تصفيات ضعيفة وبالتالي لا تستطيع المضي بعيداً في المنافسة أو إبعاد أوروبا عن القمة التي تربعت عليها في البطولات الأربع الأخيرة، بل والتي تسيدت المنافسة عليها منذ عام 1974.

ولعل نتائج المنتخبات اللاتينية في كأس العالم منذ عام 1990 تقف خير شاهد على هذا التراجع الواضح الذي يرفض «فيفا» وكثير من عشاق الكرة في العالم العربي، وحتى المنتخبات اللاتينية الاعتراف به، بل إن البعض يغض الطرف عن هذا الأمر الواضح من أجل مكاسب مالية، أو انتخابية، بل وصل الأمر إلى أن تمنح القارة اللاتينية ستة مقاعد في مونديال 2014 الذي نظمته البرازيل، بحجة أن مقعد البلد المنظم غير محتسب في نصيب القارة، لنجد ستة منتخبات من أميركا اللاتينية التي تضم أصلاً 10 منتخبات فقط، ولكن هذه المنتخبات الست ، فشلت في الوصول إلى اللقب، على الرغم من المساندة الجماهيرية التي دفعت باثنين منها إلى المربع الذهبي، حيث حلت الأرجنتين وصيفة والبرازيل في المركز الرابع، كما وصل منتخب كولومبيا إلى ربع النهائي، وأورغواي وتشيلي إلى دور الـ16، بينما غادر منتخب الإكوادور من الدور الأول، وكانت هذه النتائج هي الأفضل لمنتخبات أميركا اللاتينية مجتمعة منذ عام 1990.

ففي المونديال الذي استضافته إيطاليا في ذلك العام، شارك أربعة منتخبات من أميركا اللاتينية، ووصل منتخب الأرجنتين حامل اللقب إلى المباراة النهائية، ولكن منتخبات البرازيل وكولومبيا وأوروغواي غادرت من دور الـ16.

وفي المونديال الذي تلاه في أميركا خطف منتخب البرازيل لقبه العالمي الرابع، بينما غادر المنتخب الأرجنتيني من دور الـ16، أما كولومبيا وبوليفيا فمن الدور الأول.

وفي فرنسا 1998، وصل المنتخب البرازيلي إلى المباراة النهائية بينما غادر المنتخب الأرجنتيني من دور الثمانية، وتشيلي وباراغواي من دور الـ16، وكولومبيا من الدور الأول، وفي 2002، عادت البرازيل للتتويج، بينما غادر منتخب باراغواي من دور الـ16، والأرجنتين وأورغواي والإكوادور من الدور الأول. وفي 2006 في ألمانيا غادر منتخبا الأرجنتين والبرازيل من دور الثمانية والإكوادور من دور الـ16 وانتهت رحلة باراغواي في الدور الأول. وفي 2010 في جنوب أفريقيا حل منتخب أوروغواي رابعا وغادرت منتخبات البرازيل والأرجنتين وباراغواي من دور الثمانية وتشيلي من دور الـ16.

وقفة

على منتخبات أميركا اللاتينية أن تقف مع نفسها قليلاً، وأن تراجع هي والاتحاد الدولي لكرة القدم ما يجري في ظل الحقيقة الواضحة أن الكرة الأوروبية العلمية تحتاج إلى منتخبات قوية لمنافستها، وليست منتخبات تجد الباب مفتوحاً دائماً للوصول إلى المونديال، ولعل الحكمة الأوروبية تمثلت بوضوح، في تصريح الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بعد قرار رفع المنتخبات إلى 48 منتخبا بداية من مونديال 2026، عندما أكد الاتحاد الأوروبي أنه لن يقبل، وليس لن يطلب، لن يقبل أن تمثل القارة العجوز بأكثر من 16 منتخباً، لأن فتح الباب على مصراعيه للمطالبة بتمثيل نصف القارة، سيؤدي إلى إضعاف مرحلة التصفيات، وبالتالي تتراجع نتائج أوروبا عموماً في المونديال، بالمقابل كانت منتخبات أميركا اللاتينية برعاية من «فيفا» تسعى إلى زيادة عددها إلى 7 منتخبات، أي تريد أن يتأهل 70% منها إلى المونديال وتظل ثلاثة منتخبات فقط تتفرج على البطولة، هذا هو الفرق بين الواقعية الأوروبية التي منحت القارة العجوز السيطرة على المونديال في السنوات الأخيرة، والخيالية اللاتينية، والبحث عن الأموال، على الرغم من تراجع منتخبات عريقة فيها، وبات خروجها قبل الوصول إلى نصف النهائي أمراً معتاداً، وليس مفاجأة كما يعتبر البعض.