ضربت المجتمعات البشرية على مر الدهر، أوبئة فتّاكة لم تعترف لا بالجغرافيا ولا بالاختلافات الحضارية، فأودت بحياة مئات الملايين منهم، وخلّفت أزمات اقتصادية وفكرية وأخلاقية، ودفنت حضارات، وعجلّت ولادات أخرى.
بعض تلك الأوبئة غيّرت جانباً من اتجاهات البشر القِيمية، وشوهت التركيبة النفسية لأجيال كاملة، وبعضها الآخر نسف أسساً علمية ومسلّمات أزلية، وأحدث تغييرات هيكلية في بنية الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وفجر أسئلة وجودية بقيت حتى اليوم يتيمة من دون إجابات.
في 2020 تمكنت كمية بحجم ملعقة شاي صغيرة من فيروس كورونا من إصابة 126 مليون شخص، نجا منهم حتى الآن 46 مليوناً، وهلك ملايين آخرون، في حين يصارع المليارات في 210 دول هاجس الإصابة بسلاح الكمامات والتباعد والمعقمات.
ويصرّ «كورونا» على أن يكون الـ«عاجل» الدائم في نشرات أخبار نهاية العقد الحالي، وهو لا ينفك عن مفاجأة شعوب الأرض بموجات جديدة منه، وكأنه مصير محتوم، لا مفر من الذهول أمام لغز ظهوره في عام الفأر ولا في فهم أسطورته في الجمع بين النقيضين، فهو «قاتل ومنقذ» وجامع لـ«الموت والحياة»، فيقتل في غضون أسبوعين، ويعافي طبقة الأوزون والغابات، ويعيد للهواء نقاءه، ويجدد حياة البحار والمحيطات، وهو نفسه «القوي والضعيف»، فيموت بالصابون ويقاوم اللقاحات.
واحدة من أبشع ما فعله «كورونا» تحويله المساكن إلى «معتقلات» لمليارات البشر، فتحول مصطلح «مدن الأشباح» حقيقة عاشتها 27700 مدينة عالمية، كلها أمضت النصف الأول من 2020 تنام مبكراً وتصحو متأخرة بعد عقود من الصخب والضجيج الذي لجمه الحجر الصحي جاعلاً من رمي النفايات في حاوية خارج المنزل أشبه بعملية عسكرية.
واستنهض الفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة، مئات ملايين البشر وشرذمهم في جدال إلكتروني لا نصر فيه لا لمن يدعي أنه «فيروس عادي مثله مثل الرشح»، مثل كاتب هذه السطور، ولا للروحانيين الجازمين بأنه «غضب الطبيعة»، ولا لمن يرى فيه «لعبة سياسية تتشاركها دول»، وعلى ذكر الدول فإن «المتقدمة» منها والمؤسسة للعولمة، سرعان ما ارتدت إلى العصور الوسطى في تصرفات همجية، أقلها قرصنة «الكمامات» من على ظهر السفن الآمنة.
بل إن «الكمامات» نفسها تحولت إلى نقاش بشري قائم حتى اليوم بين من يرى فيها حصناً منيعاً بوجه انتشار العدوى، وبين من يراها «قاتلاً اقتصادياً ناعماً» جعل عمالقة الصناعة مثل «إيرباص ولومبرجيني ورينو وجنرال موتورز وتسلا وفورد وثري أم» وغيرها ينخرطون في شهر أبريل في تحويل خطوطها الإنتاجية إلى تصنيع الأقنعة الطبية والكمامات ومعقم اليدين.
لكن ذلك الشهر لم يكن عادياً، فهو الذي حمل على مر التاريخ أحداثاً كارثية جسيمة مثل الحرب الأهلية الأمريكية (تقريبا 5 أبريل 1865). والحرب العالمية الثانية (استسلام ألمانيا - أبريل 1945).
واغتيال الرئيس الأمريكي إبراهام لينكون (14 أبريل 1865) والمجزرة الأرمينية (24 أبريل 1915) وغرق السفينة تيتانيك (14-15 أبريل 1912) واغتيال مارتن لوثر كنج (4 أبريل 1968) وكارثة شيرنوبل النووية (26 أبريل 1986) وسقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي (09 أبريل 2003).
هذا الشهر جاء في 2020 بأضخم صفعة تلقاها النفط على مر التاريخ، إذ سيبقى تاريخ العشرين من أبريل 2020 محفوظاً في الذاكرة لوقت طويل كـ«اثنين أسود» جديد في تاريخ الانهيارات. انهيار ليس له مثيل. لم يحدث على الإطلاق أن دَفَع حامل عقود للمستهلك مقابل تصريف بضاعته النفطية.
ولم يعد النفط شريان الحياة الاقتصادية، كما لم يعد الإنجاب شريان الاستمرارية البشرية، فقد أصبح التباعد الاجتماعي سلوكاً متجذراً في المجتمعات، فعندما رفعت حكومات دول الكرة الأرضية شعارات «ابقوا في المنزل» كان للبعض تكهنات ساخرة بشأن حدوث طفرة في أعداد المواليد أثناء فترة الجائحة، وتداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الاقتراحات فيما بينهم، حول الاسم الذي يجب أن يتم إطلاقه على جيل المواليد الجديد، فاقترح البعض اسم «كورونيال» في مستهل عمرهم، ثم اسم «كوارانتينز» (وهي كلمة قريبة من كلمة «كوارانتين» الإنجليزية والتي تعني «الحجر الصحي».
لكن استمرار تفشي فيروس كورونا، أصاب الاقتصاديين وعلماء الأوبئة بالهلع، واضطرت سنغافورة مثلاً إلى إغراء مواطنيها بمبالغ مالية لتشجيعهم على الإنجاب خلال فترة الوباء، ويتمثل مصدر القلق لدى السلطات في أن المواطنين يقومون بتأجيل الإنجاب في وقت يصارعون فيه الضغوط المالية وعمليات التسريح من العمل والذي أصبح أغلبه عن بعد معلناً ولادة ثقافة جديدة في سوق العمل والوظائف، ولم يعد غريباً الإعلان عن ذهاب عشرات الوظائف إلى الروبوتات أو إنجاز أعمال بشرية بالذكاء الاصطناعي وأصبح عادياً جداً أن تنهمر المليارات على التطبيقات التي لم يكن مرحباً بها، لتصبح الجسر الوحيد الذي يؤمن حلول التوصيل والتواصل الإنساني والتجاري والطبي والاقتصادي والتعليمي عبر منصات الفيديو.
ولقد بات كل شيء إما محظوراً أو افتراضياً، والدمار الذي تسبب به الفيروس لا يمكن حصره، وأشده كان على رغيف الخبز بتسريح الملايين من أعمالهم، وقد يطول الأمر حتى تترجل الحياة برمتها من الـ«أونلاين». وقد ينتهي هذا العقد خلال أيام من دون الإعلان عن منتصر ومهزوم وخاسر ورابح، فالجائحة ضربت كل ما تحت الغلاف الجوي، وتأثر بها البشر والحجر، وانكشفت في إثرها عورات دول وأنظمة، وزادت من شأن حكومات وقادة، بينهم قادة بشروا شعوبهم بالاستعداد للحداد وبالفراق الطويل، وقادة طمأنوا شعوبهم بالتمسك بالحياة، وبأن «ما يشيلون هم».